مقالات
قطوفٌ من دفترٍ قديم
1)
اتّخذ الإنكليز شكسبير رمزاً لهم.. واتّخذ الفرنسيون فولتير.. والطليان دانتي.. والألمان جوته.. والأسبان لوركا.. والروس بوشكين.. والهنود طاغور.. ويكاد الأمريكان يتفقون على والت ويتمان.
واحتار العرب - كعادتهم - في رمزهم.. حتى المتنبي قالوا فيه ما لم يقله مالك في الخمر!
ثم إنهم حين راحوا يخوضون في المرموز الدلالي لهم، لم ينتبهوا إلى رمز فكري أو أدبي أو لغوي أو علمي أو تعليمي أو تنويري - كما هو ديدن كل الشعوب المحترمة - بل تشتّتوا في المواضع التي يستوطنها أهل الحرب والحكم والجبروت!
لم يحترم العرب مفكريهم وعقولهم، فلم تحترمهم البتة حكوماتهم..
ولم يرفعوا من شأن أقلامهم، فارتفعت فوق رؤوسهم "جزماتهم"!
وحال اليمنيين كسواهم من العرب بالطبع، بل قُل أسوأ.
وهذا ما نلقاه في المشهد الثقافي اليمني، حيث لم يسلم خيرة أقلامنا وعقولنا وأعلامنا - حتى هذه اللحظة - من جنابي التكفير وسواطير التخوين.. وفي هذه الجريمة يتورّط لدينا الجاهل والمثقف، الأُمّي والمتعلم، على السواء.
وقد بات مؤكداً أنه حيث يسود الإرهاب ويستشري التخوين والتكفير، تذبل زهرة الإبداع وتخمد جذوة التفكير.
والطامة الكبرى أن الجَهَلة يجهلون جهلهم، والقَتَلة يحمدون جُرْمَهم.. حتى بات القبر على ضيقه يتّسع لنا، والوطن على اتساعه يضيق بنا!
2)
بغْيٌ دخلت الجنة، لأنها سَقَتْ كلباً.
وأخرى دخلت النار، لأنها حبستْ هرّة.
وكم من لحيةٍ كثّة
تُعشّشُ وسطها العُثّة
فلا تغُرَنَّكَ لحيته!
الله وحده علاّم الغيوب.. وهو يُحدد مبادئ الثواب والعقاب على هذا الأساس..
ولكن العامة لهم المظاهر، فلا صلة لهم بعلم الغيب..
فقد كان ثمة عابدٌ زاهدٌ يدخل الخمّارة، فيشتري ما فيها من قناني الخمر، ثم يعود إلى داره ليُلقي بها في المرحاض..
ويذهب إلى عاهرة في منزلها، ليمنحها مالاً يكفيها معيشتها، قائلاً لها: قرّي في بيتك، ولا تُدخلي أحداً عليك..
وكان الناس يرونه يدخل تلك الخمارة وذلك البيت، فعدُّوه سكيراً زانياً، دون أن يدروا حقيقة مسعاه بين الموضعين.
الناس تُخدع بالمظهر، فإيّاكم والشبهات..
فلا تحدثوا شخصاً على علاقة بالانقلاب.. أو ترتبطوا بمنصب ذي صلة بالشرعية..
فكلاهما مصدر شُبهة قد تُلقي بك إلى التهلكة..
ولا تكونوا مثل ذاك الذي أطاع نداء الشيطان الهاتف به:
قُم وصَلِّ نحو قُم
أو إلى نجدٍ وضُم
وارتزقْ من ذا وذا
ثمّ عِدْهُم بنُقُــــــــم
والعنِ الشعبَ إذا
رفضَ البيــــعَ لهم.
فشيطان الخميني مثل شيطان سعود.. ولحية هذا تقطر سمّاً كلحية ذاك..
وأنت اجعل لحيتك لك.. وإيّاك أن تُضيّعها.
3)
قيل لمايكل أنجلو: كيف تصنع من هذه الصخرة الصلدة الصمَّاء تمثالاً رائعاً ينبض بالحياة؟
ردَّ الفنان العظيم، والدهشة تعلو قسمات وجهه: كيف تظنون أنني أصنع التمثال من الصخرة!
وأضاف موضحاً: إنني حين أنظر إلى الصخرة أرى ذلك التمثال ماثلاً فيها بوضوح شديد. وما أفعله ليس سوى إزالة الشوائب، وإزاحة الزوائد في الصخرة، حتى لا يبقى منها سوى ذلك التمثال.
وهنا ذروة الإبداع الحقيقي. إنه لا يرى في قطعة الحجر غير قطعة فنية بالغة الأثر. لم يرَ في الصخرة الصلدة الصمَّاء غير نبض الفن المتدفق بالذوق السامي والإحساس الرفيع.
4)
ذات يوم بعيد، قال الأديب الشهيد محمد عبدالولي - على لسان أحد أبطاله - وهو في حالة نفسية شائكة التعقيد: "هناك سرٌّ ما في بلادنا هذه. إنها جرداء وقاحلة.. لكن الأمل في ألاّ يقتلنا هؤلاء الذين لا قيمة إلاّ لبندقياتهم".
وتشاء حماقة الأقدار أن يقترف "هؤلاء الذين لا قيمة إلاّ لبندقياتهم" جريمة قتل عبدالولي نفسه!
وأمثال هؤلاء يصعب القبض عليهم، لا عبر الإنتربول ولا الإنترنت ولا الإنتركونتننتال ولا أيّ إنتر آخر. إنهم يوغلون فينا، يتوغلون في نسيج كوابيسنا، ويتغوّلون في واقعنا المادي والافتراضي معاً.. ولا أمل في إزاحتهم ألاّ باستئصال رؤوسنا!
حقاً إن "أعلى ذروة يمكن أن يبلغها المرء ليست المعرفة ولا الفضيلة ولا النصر، بل هي شيء أكبر.. إنها الخوف المقدّس".
والعبارة لكازنتزاكي، الذي سخر بمرارة من الحماقات والحقارات لدى بعضنا، فقال: "إنْ لم تكن للإنسان رأس... يكفي أن تكون لديه قبعة"!
5)
وفي آخر الحرب،
تنكسرُ الأغنيات
وتنهزمُ الأمنيات
ويمضي بنا التاريخُ
كالفضيحةِ،
في صحارى طافحةٍ بالقبورِ
ونازحةٍ في خيامِ السِّجــــــالْ
وتبصقُ اِمرأةٌ
في وجـــوهِ الرجـــالْ.