مقالات
كلمة أخيرة عن نوال سعداوي
في يوم الأم العالمي، توفيت الطبيبة المصرية والمؤلِفة الشهيرة، نوال سعداوي، ومن لم يسمع بها أو يقرأ لها في حياتها، عرف عنها عند موتها، وبهذا يكون حدث الموت مناسبة تبلغ فيه الشخصية المتوفاة، أعلى ذروة للحضور، وتتمدد لجمهور أوسع، لربما لم يكن قد سمع بها؛ لأسباب تتعلق بعدم اهتمامه المعرفي وبساطة اطلاعه، حتى يأتي حدث الموت ويدفع بالشخصية للواجهة، لتأخذ مساحتها من الجدل، كما يحدث دوما مع كل شخصية مؤثرة، وكما حدث مع نوال سعداوي طوال الأيام الماضية.
كعادة النقاشات في مواقع التواصل، يأخذ الجدل طابع الخفة والآراء المسلوقة على عجل، ويندر أن يتخذ النقاش صفة منهجية، وسط أجواء محمومة تتحكم بها الردود العفوية والانفعالات العابرة، ولهذا نجد أن غالبية النقاشات التي تعقب وفاة أي شخصية جدلية، تدور حول القضايا نفسها، وتكاد تغييب القضايا الجوهرية التي اشتغلت عليها الشخصية الراحلة.
فموت شحرور -مثلًا- أو ستيفن هوكينج أو نوال سعداوي، كله أحداث أثارت جدلًا حول الموضوع نفسه، وتحديدا حول قضايا تتعلق بمصيرهم الغيبي أكثر من الحديث عن مضمون ميراثهم المعرفي، مع أن كل شخصية من هؤلاء كانت تشتغل في مجال مختلف كليا عن الآخر.
هذه الملاحظة المتكررة تبدو احتكارا عربيا أو ظاهرة خاصة بنا نحن العرب، ولا أظن سجالات مماثلة تدور في العوالم الأخرى بالطريقة نفسها التي تحدث لدينا عند وفاة شخصية شهيرة في بلدانهم.. ولعلّ هذا الفارق يعكس عمق الحضور الديني في المجتمعات العربية، ودرجة انشغال الإنسان العربي بقضايا المصير أكثر من انهماكه في قضايا اللحظة الراهنة والواقع المعاش.
حسنا، ماتت نوال سعداوي، هي الآن في حكم الموت، مصيرها الشخصي شأنا غيبيا، غير أنك لا تستطيع لجم الناس من التعبير عن آرائهم فيما يخص مصيرها، فهم بذلك لن يقرروا موضعها في الجنة أو الجحيم، بل يعبرون عن رؤيتهم الخاصة لعالم ما وراء الحياة.
في حياتها كما في موتها، كانت نوال سعداوي شخصية مثيرة للجدل، غير أن الجدل الذي صنعته لم يكن نابعا من عبقرية معرفية خاصة؛ بل من طبيعة المواضيع التي اشتغلت عليها. فقد تركز نشاطها فيما يمكن تسميته ثالوث: الجنس والدين والسلطة.
وتلك مواضيع ذات طبيعة جدلية وحساسة في مجتمعات ما تزال تتضمن توابيت كثيرة، يصعب تجاوزها أو اختراقها بسهولة.
يمكن القول إن نوال سعداوي تعتبر رائدة الحركة النسوية في العالم العربي، والأم الروحية للنضال النسوي، فقد كرّست حياتها لمقاومة السلطة الذكورية، وأرادت كسر الهيمنة الذكورية والاستفراد بالحياة العامة، وصولا لتحرير المرأة حتى في حياتها الخاصة، داعية إلى تحطيم كل القيود الإجتماعية والسياسية المفروضة على النساء، ودفعهن لمضاعفة المساحة الخاصة بهن في عالم الحياة ككل.
في طريقها لتحرير المرأة، اشتبكت نوال سعداوي مع المجتمع والدّين والسلطة، وعملت على خلخلة القيود الراسخة بهدف إعادة صياغة قواعد جديدة تنظّم العلاقة بين الرجل والمرأة في الحياة العامة والخاصة، فقد ظلت تدعو نساء العالم إلى التمرد وإعادة تعريف أنفسهن، بعيدا عن الأنماط السائدة والمفروضة عليهن مسبقا. في محاولة منها لتأسيس سردية تأريخية جديدة للمرأة، تخترق بموجبها ما أسمته احتكار الرجل صناعة التاريخ، وتطويع المرأة بموجب تلك السلطة المتكدّسة في قبضته.
ولعلّ أحد أهم مواضيع الجدل التي أثارتها نوال سعداوي، تلك المتعلقة بمواقفها من الأحكام الدينية الخاصة بالمرأة، سواء فيما يتعلق بمواضيع "الميراث" أو "الحجاب" أو 'الختان' أو "تعدد الزوجات"، وكل ما يتصل بالمرأة في القرآن أو الميراث الفقهي والسنة النبوية.
كما لم يقتصر نقدها للدّين على مواضيع المرأة فحسب، بل ذهبت أبعد من ذلك للتعبير عن آرائها في مواضيع دينية أبعد، مثيرة بذلك جدلا واسعا، باعتبارها تمرّدت على قضايا أصولية، الكفر بها يُجرد المرء من إسلامه.
ومع أن نوال سعداوي كانت تعرف نفسها أنها باحثة متخصصة في الأديان؛ لكن مجمل اعتراضاتها على قضايا دينية، كشف محدودية معرفتها الدّينية، حيث ظهرت في أغلب اعتراضاتها هشّة، وتفتقد للنظرة الكلية للقضايا في سياقات كاملة، فقد تركزت اعتراضاتها على نقاط مجزأة ومناطق التباس، دونما رغبة بتحرٍ أشمل ينتج معرفة موضوعية، ولو كانت تختلف مع ما ترغب بالوصول إليه.
بمعنى أن نوال سعداوي -في مجمل انتقاداتها للدين- كانت دوما تنطلق من جزئية معيّنة، ثم تبحث عما يسندها فحسب، ولو وسعت دائرة بحثها لوجدت إجابات تفنّد تلك الجزئية محل الاعتراض. بهذا يمكن القول إنها وقعت في الفخ نفسه الذي كانت تنتقد به الدّين من أنه متحيّز للرجل، فهي قدّمت نفسها كأبرز نموذج نسوي متطرّف في انحيازه للمرأة، كما لو أنها نسخة مطابقة ومقلوبة عن الذكورية المتسلّطة.
في هذا السياق، ثمة ملاحظة مهمّة، هي أن أغلب الرموز العربية التي اشتبكت مع الدّين واشتهرت بأرائها المعارضة للأحكام الدّينية -أقول أغلبها وليس جميعها- كانت غير متخصصة في القضايا الدّينية، على أن القول إنها غير متخصصة لا يعني اشتراط الحصول على شهادة أكاديمية في مجال ديني، بل الإلمام بالقضايا المتعلقة به، والسيطرة على الميراث الدّيني كمقدمة ضرورية لنقده. وهذه أزمة توقع الناقد للأديان من خارجها في فخ الهشاشة المعرفية أحيان كثيرة.
نوال سعداوي، لم تنجُ من هذا المزلق، ما أوقعها في فخ العداء المُطلق لكل ما هو دِيني، وهذا موقف أيديولوجي أكثر منه منطقا معرفيا موضوعيا ومتجردا. لهذا بدت مواقف نوال كما لو أنها انفجارات عاطفية وعشوائية مناهضة لكلِّ حُكم أو قِيمة دِينية، فقط لمجرد أن جذورها قادمة من الدِّين وليس دائما لكونها تظلم المرأة أو لا تحقق قيمة العدالة في الحياة.
من زاوية أخرى، وبالرغم من الهالة الكبيرة التي أحيطت بها نوال سعداوي في حياتها وعند مماتها، وبالنظر أيضا لحجم انتاجها من الكتب التي تجاوزت "50" كتابا، إلا أنه لا يمكن القول عنها إنها أسست لمدرسة أو منهج فكري يختص بقضايا المرأة والمواضيع التي اشتغلت عليها.
فمجمل انتاجها، على ثراه، يظل مخزونا معرفيا غزيرا، أشبه بمكتبة معلوماتية وأفكار متفرّقة لا تتضمن أي أطر فلسفية أو أرضية فكرية صلبة يمكن أن تستند عليها الحركة النسوية كمرجعية معرفية تحوي اجابات عن كل ما يتصل بقضايا المرأة. وهذه النقطة بالذات تظل فجوة كبيرة في ميراث نوال سعداوي، كونها لم تشتغل على البُعد الفلسفي، واكتفت بالتراكم المعلوماتي دونما تركيز على الأفكار التأسيسية التي تتطلبها أي مدرسة معرفية تهدف إلى تدشين نهج جديد في أي مجال كان.
الخلاصة: تظل نوال سعداوي أول شخصية عربية استطاعت أن تنجز حضورا كبيرا في ميدان الحراك النسوي، وصنعت بذلك رمزية كبيرة في المجتمع العربي، وبصرف النظر عن مستواها المعرفي، إلا أنها صارت رقما فاعلا يتمتع بثقل كبير في الساحة، وبهذا تمكنت من تدشين بداية جديدة للنضال الحقوقي النسوي، ودفعت بالنقاش نحو مستويات عُليا، وبذلك شكّلت الراحلة حالة إلهام نتج عنها رموز نسوية كثيرة، وسوف تواصل نوال حضورها بعد مماتها، كأحد أهم المرجعيات الثقافية والفكرية للمرأة في العالم العربي.