مقالات
كيف "تسطل" شعباً؟
شكا لي أحد الأصدقاء الأعزاء في عدن من انتشار أصناف شتى من المخدرات في صفوف شباب هذه المدينة، على نحوٍ يثير الرعب والدهشة معاً.
والحق أن هذه الظاهرة ليست محصورة بمدينة دون غيرها من مدن البلاد. حتى حضرموت التي كانت لزمنٍ طويل جداً بعيدة كل البُعد عن هذه الآفات - بما فيها القات - صارت إحدى ضحايا المخدرات.
لكن ما لم يفقهه صاحبي أن هذه الظاهرة صنيعة شبكة دولية، مرتبطة بأحابيل سياسية واستخبارية قوية وواسعة النفوذ.
عدا عن كون تخدير الشعوب والمجتمعات لا يتم بالمخدرات وحدها، إنما ثمة وسائل وأساليب وأدوات شتى لإنجاز هذه المهمة الخطيرة والحقيرة.
صبَّ رئيس يمني جامَ غضبه على أحد مواطنيه (وكان من معارفه المُقرّبين) بعد أن تناهى إلى مسامعه أنه يبيع الخمور. وقد ردَّ الرجل بأنه يفعل ذلك من أجل صالح الرئيس!.. وحين أبدى الرئيس دهشته، أجابه بأن أغلب زبائنه من السياسيين والمثقفين المعارضين لحكمه، ولولا أنه يُخدِّرهم بالخمر وجعلهم مسطولين معظم الوقت، لقادهم صحوهم إلى تدبير الإطاحة بحكمه!
والحكاية حقيقية جداً.. ليست من نسج الخيال أو محض نكتة.
وإثر اندلاع أحداث القاهرة وبعض مدن مصر -في عهد الرئيس السادات- خلال يومي 18 و19 يناير 1977، بثَّ التلفزيون المصري مسرحية "مدرسة المشاغبين"، التي أشتهرت بقدرتها على الإضحاك على نحوٍ لافت.. فقد رأت أجهزة الحكم -حينها- أن تُغرِق الجماهير في بحر من الضحك، لعلَّ ذلك يُنسيهم تراجيدية تلك الأحداث.. غير أنها كانت المرة الأولى -والوحيدة- التي يشاهد فيها مواطن مصري هذه المسرحية ولا يضحك البتة.. فقد كان الناس غرقى في بحر من الحزن والقهر والغضب.
ولم يتخدَّر الجمهور العربي قبالة شاشات التلفزة بالقدر العجيب الذي يحدث خلال بثّ المسلسلات التركية والهندية -ومن قبلها المكسيكية- المدبلجة بلهجة عربية.
والخدر ذاته أصاب هذا الجمهور -ولا يزال- خلال زمن بثّ برامج المواهب في الغناء والرقص وغيرها، وما يتبعها من زلزال التصويت عبر الرسائل الإليكترونية التي ضخَّت -ولا زالت- ملايين الدولارات لقنوات التلفزة وشركات الاتصالات، فاكتمل مفعول التخدير بالنَّهب المُنظّم!
كما صارت برامج المسابقات تخدّر الناس بإطلاقها وعوداً متلاحقة بضخّ ملايين الريالات والدولارات إلى جيوب المشاركين، ما خلقَ حالة من القيم الاتكالية المُغرِقة في الشعور بإمكان انتقال المرء -في لحظة فاصلة- من مديون إلى صاحب المليون.
وهو شعور قاتل، يلغي التفكير بقِيم الجهد والاجتهاد في العيش والإبداع والإنتاج، واستبدالها بحلم ضبابي سحري وخادع بالحصول على شفرة الرفاهية أو مفتاح السعادة عبر ضربة حظ محتملة!
لقد صار تخدير الشعوب متعدد الأشكال والألوان ومتنوع الأساليب والوسائل.. وقد تجاوز حدود الأفيون والهيروين، إلى المادة الإعلامية المستهدفة ضرب القِيم والمُثُل والأخلاق في وعي المرء ووجدانه، وزرع أفكار وآمال تودي به إلى حالة القطيع أو حالة الرضيع!
صارت شاشة التلفزة واحدة من أخطر الأسلحة المستخدمة في هذا النطاق، إذْ صارت بعض البرامج والمواد الإعلامية أكثر خطراً وأشدّ ضرراً على الجمهور من كل العقاقير المخدّرة والقوارير المُسكِرة التي تغزو البلاد من البر والبحر والجو في آن!
ثم إن السماح -المتعمّد ربما- باستشراء الأُميَّة (بعد أن كان دور الدولة والمجتمع يتمثّل في مكافحتها) يهدف بالضرورة إلى ضرب رجاحة العقل الجمعي، برغم ضآلة الرجاحة المتبقية في ذلك العقل!.. فكلّما اتسع نطاق الأُميَّة في مجتمع، أوغل هذا المجتمع في دوامة "الكوما".
ولهذا انتشرت وتجذَّرت الأفكار المتطرّفة التي قادت إلى النزعات الإرهابية من جهة، والمعتقدات الخرافية والكهنوتية والرجعية من جهة أخرى، ومشاعر الإحباط والنكوص واللامبالاة من جهة ثالثة، لتُعيد صياغة الوعي والوجدان الجمعي العربي في قالب جديد لا يمكن وصفه بأقل من أنه "مسخ" بكل ما في الكلمة من رعب وقبح وبؤس وانحطاط!
هذه هي الملامح الأبرز في المؤامرة الحقيقية، الأكبر والأخطر على الإطلاق في تاريخنا العربي الذي كان تليداً ثم غدا بليداً.
وهي رُسِمتْ وصُمّمتْ في دوائر استخبارية وبحثية وسياسية صهيونية، لكنها تُنجَز وتُنفّذ -بضراوة ومهارة شديدتين- بأيادٍ وأموال وجهود عربية مائة بالمائة!