مقالات
لا تصدقوه.. هذا يكره جمال عبد الناصر (سيرة ذاتية 12)
في صباح اليوم التالي خرجتُ من اللوكندة وأنا بدون نوم. وبعد أن فطرتُ في "مطعم النجاة"، ذهبتُ إلى مقر رئاسة الأركان لتقديم المذكرة بخصوص ترقيتي من عسكري إلى رتبة رقيب. وعند وصولي، كان هناك زحامٌ شديد، وجميعهم بالبدلات العسكرية، وأنا الوحيد باللباس المدني. وحين اقتربتُ من أحد المكاتب وعرضتُ مذكرتي على الضابط الجالس على المكتب، قال لي بعد أن قرأها إن هناك قرارًا بوقف ترقيات العساكر.
وحين سألته عن رئيس هيئة الأركان، قال إنه لم يأت بعد. وعندئذٍ انسحبتُ بهدوء وعدتُ إلى شارع علي عبد المغني أذرعه، وأبحث فيه ليس فقط عن وجهٍ أعرفه، وإنما أبحث فيه عن مستقبلي.
وفي عصر نفس اليوم صادفتُ طالبًا كان زميلاً لي في كلية بلقيس اسمه توفيق عبد اللطيف، وكان طالبًا فوضويًا زاملته في المعهد العلمي الإسلامي، وفي كلية بلقيس. وكان قد سبقني في مغادرة عدن، وخرج منها قبل الاستقلال. وأول ما أبصرته، أخذته بالأحضان، وحين سألني عن سبب مغادرتي عدن، قلت له:
- عدن كانت حلوة أيام الإنجليز.
ورحت أحكي له عن عدن بعد الاستقلال، ولم أعد أذكر ما الذي قلته له. لكنني أذكر أنه قال لي إن الكثير من أبناء عدن موجودون في صنعاء، وعندما أخبرته عن سبب مجيئي إلى صنعاء، ضحك من هبالتي ونصحني بدخول الكلية الحربية، وقال لي:
- يا أهبل بدل ما تجلس تعامل على رتبة رقيب، سجل بالكلية الحربية، ولو انت دخلت الكلية الحربية باتتخرج ضابط وتقدر تعمل انقلاب وتطلع رئيس.
أيامها كانت الانقلابات العسكرية سهلة، وكانت الشعوب العربية تنام وتصحو على انقلابات، وكان كل ضابط يشعر أنه قاب دبابتين أو أدنى من السلطة. وحتى الضابط الذي لا دبابات له ولا يمكنه عمل انقلاب، كان من حقه أن يحلم بعمل انقلاب. ومع أنني ضحكتُ عندما قال لي:
- باتتخرج ضابط وتقدر تعمل انقلاب وتطلع رئيس.
إلا أن كلامه عن التسجيل في الكلية الحربية لامس شيئًا في نفسي، ورفع سقف طموحي، وقررتُ لحظتها دخول الكلية الحربية.
ولشدة حماسي مزقتُ المذكرة التي كتبها لي رئيسي بشأن ترقيتي من عسكري إلى رتبة رقيب، وقلت له وأنا أمزقها في "منتزه التحرير":
- بعدك يا توفيق.
وتمنى لي زميلي توفيق التوفيق. وفي صباح اليوم التالي، ذهبتُ إلى الكلية الحربية في منطقة الروضة لغرض التسجيل. وكنت كل صباح أذهب سيرًا على قدمي، وألتقي في الطريق بالعشرات من الراغبين في التسجيل. وفي تلك الأيام، كانت الكلية الحربية هي أعظم وأعلى الكليات في اليمن شماله وجنوبه، وهي الكلية الحُلم. وكان أقصى ما يحلم به الواحد منا هو أن يلتحق بها ويتخرج ضابطًا. أيامها، كان الضباط المتخرجون من الكلية الحربية نجوم المجتمع، وكان يكفي أن يرى الناس نجمتين في كتفيك حتى تغدو نجمًا في نظرهم، وحتى ينحنوا لك ويحترموك.
وأذكر أنه بعد الثورة، وأنا طفل، مرّ بقريتنا الضابط "جابر عبده فارع"، وكان قد جاء من صنعاء في إجازة، وعند مروره من أمام بيتنا في طريقه إلى قريته "كلبين"، ناداه أبي وطلب منه الدخول لشرب الشاي، وكان الضابط "جابر عبده فارع" أول ضابط وأول عسكري جمهوري يدخل بيتنا. وأذكر أنه دخل وهو يرتدي البدلة العسكرية، واستقبله أبي في "خلوة العسكر"، وهي الخلوة التي كان ينزل فيها عساكر الإمام في العهد الملكي. وكانت صورته وهو بالبدلة العسكرية قد انحفرت في ذاكرتي، وربما كان دخوله بيتنا وهو بتلك الهيئة قد دفعني، من حيث لا أدري، لدخول الكلية الحربية.
وفي نفس اليوم الذي ذهبت فيه للتسجيل، كنتُ في أجمل حالاتي، وكانت معنوياتي في السماء. وأثناء ما كنت أذرع شارع علي عبد المغني المزدحم بالمارة، كان رأسي قد تحول هو الآخر إلى شارع تتزاحم فيه أحلام اليقظة. وكان أن استرجعتُ ما قاله لي زميلي توفيق، ورحت أحلم وأبالغ في أحلامي، وفيما كنت غارقًا في أحلام يقظتي تلك، ومنتشياً، أبصرتُ شخصًا يقبل نحوي ويقول لي وهو يسلم علي:
- إيش جابك صنعاء يا أبو الروتي؟
ومع أنني كنتُ قد تصالحتُ في عدن مع مهنتي، ولم أعد أزعل أو أُستفز عندما يناديني أحدهم: "يا أبو الروتي"، إلا أنني يومها تضايقتُ من كلامه وانزعجتُ، واسترجعتُ صورة العدانية الخمسة وهم يخطفون حقيبتي المدرسية في أول يوم دراسي، ثم وهم يضربونني أمام البنت كافيتا. وقلت له وأنا زعلان:
- قد سيبت لكم عدن، وسيبت الروتي، ورحت الحديدة، وتعسكرت، وطلعت صنعاء، وسجلت بالكلية الحربية، ومكاننا عندكم أبو الروتي!!
ولأني قلت ذلك جادًا وبزعل، ارتبك الرجل العدني وقال لي وهو محرج:
- عفوًا، أنا أعرفك لكن ما أعرف اسمك.
وبعدها عرفتُ الرجل، وتبين لي أنه هو نفسه العدني الذي كان يشكك في المعلومات التي كنتُ أقدمها للزبائن. كان ذلك في حرب ٦٧، وكنتُ أيامها أستقي أخباري من إذاعة صوت العرب والقاهرة، وأكلم الزبائن كل مساء حين يأتون لشراء الروتي عن عدد الطائرات الإسرائيلية التي تم إسقاطها، وعن الدبابات التي تم تدميرها، وعن الانتصارات العسكرية التي يحققها الجيش المصري كل يوم. وكان هو، بحكم معرفته باللغة الإنجليزية، ولأنه يستقي أخباره من إذاعات أجنبية، يشكك بكل تلك المعلومات التي أقدمها للزبائن.
وكان تشكيكه في معلوماتي يثير غضبي وحنقي واستيائي. وكنت بعد أن يأخذ الروتي ويغادر، أقول لهم:
- لا تصدقوه.. هذا يكره جمال عبد الناصر.