مقالات

لا توجد طائرة في صنعاء..!

29/05/2025, 16:29:09

عندما استهدفت الطائرات الأمريكية مطار صنعاء وقصفته بشراسة، لم تكن الضربة مجرّد عملية عسكرية عابرة. 

كانت إعلانًا عن نقطة تحوّل فارقة في المشهد اليمني، وإشارة صريحة إلى نهاية مرحلة من المناورة والابتزاز السياسي الذي مارسته جماعة الحوثي تحت ذريعة مقاومة "العدو الصهيوني".

الهجوم دمّر البنية التحتية للمطار، وأتلف ثلاث طائرات مدنية تتبع الخطوط الجوية اليمنية، ما يعني أن اليمن خسر جزءًا من آخر ما تبقّى من رموز سيادته المدنية. 

لم تكن الطائرات مجرّد وسائل نقل، بل كانت شرايين اتصال بين اليمن والعالم، والآن صارت حطامًا وسط مطار محاصر ومشلول.

لم تمر سوى ساعات قليلة على القصف حتى أعلنت الولايات المتحدة أنها توصلت إلى اتفاق مع جماعة الحوثي بوقف الضربات الجوية مقابل وقف هجمات الجماعة على السفن. 

للوهلة الأولى، بدا الأمر وكأنه انتصار دبلوماسي سريع، لكن من يدرك بنية هذه الجماعة يدرك أن هذا "الاتفاق" ليس سوى غطاء تكتيكي لانسحاب مؤقت فرضته حالة الخوف.

الحوثي لم يوقف الهجمات حبًا باليمن، ولا حرصًا على مصالحه، بل لأن القصف الأمريكي لامس رعبه الداخلي، وكشف له مدى هشاشته العسكرية.

حين تُداس مصالحه المباشرة يركع، أما حين يُداس الشعب فلا صوت له سوى الصواريخ والنّهب.

جماعة الحوثي، منذ ظهورها، لم تكن سوى أداة إيرانية مشحونة بالطائفية والرّغبة العميقة في تحطيم كل ما يربط اليمنيين بدولتهم وهويتهم. هي كيان نشأ على ثقافة السَّلب، وتغذّى على الدّم، وتوسّع بالخراب. 

لا تعرف البناء، ولا تُتقن سوى القتل والادّعاء. حين قصفت أمريكا المطار، سقطت آخر ورقة تين كانت تستر بها سوءتها أمام مَن تبقّى من المخدوعين. 

الجماعة، التي اعتادت الصراخ في السبعين باسم "نصرة غزة"، صمتت فجأة، ليس احترامًا للدّم الفلسطيني، بل لأنها شعرت أن صواريخها لن تُواجه بصمت كما اعتادت، بل ستُواجَه بالحديد والنار.

أما الخطاب الحوثي المليء بادعاءات المقاومة لم يكن يومًا صادقًا. كان مجرّد وسيلة ذكية لشرعنة بقائها كسلطة أمر واقع في عيون الشعوب المتعاطفة دينيًا مع القضية الفلسطينية.

لكن هذا القناع الأيديولوجي سقط مع أول ردة فعل أمريكية قويّة، ومعه سقطت كل التمثيليات التي كانت تُعرض على جماهير مخدوعة، داخل اليمن وخارجه. 

لقد بات من الواضح للجميع، حتى لأولئك الذين لا يملكون أدوات التحليل السياسي، أن الجماعة التخريبية لا تقاتل من أجل فلسطين بل تُتاجر بها.

الأكثر خطورة أن الحوثي، بعد توقف القصف، لم يجد ما يستند إليه لتبرير وجوده "كمناصر لغزّة"، فخسر آخر سلاح تعبوي يمتلكه. الصواريخ توقفت، الضربات الأمريكية توقفت، لكنه لم يوقف حصاره للشعب وتجويعه ونهبه وإرهابه.

سقطت كذبة المقاومة، فبدأ يبحث عن وسيلة أخرى لاستعادة الفوضى التي تُغذّيه. أعاد إطلاق الصواريخ، لا من أجل تحرير القُدس، بل من أجل استدراج القصف الأمريكي من جديد، كي يعود إلى لعب دور الضحية، ويعيد تشغيل ماكينة الكذب الإعلامي.

الواقع المرير أن هذه الجماعة، في جوهرها، تتلذذ بتدمير اليمن. مشروعها انتقامي بحت، ينهل من رواسب تاريخية مشوّهة، ويستمدّ بقاءه من معاناة الناس. 

الحوثي لا يحكم اليمن، إنه يحتله، ويهدم الدولة قطعةً قطعة. كل صاروخ يطلقه هو رصاصة في جسد اليمن لا في جسد أعدائه، وكل خطاب يروّجه هو حبل آخر يخنق به ما تبقى من وعي الشعب.

لقد أعادت المليشيا إطلاق الصواريخ، لا بدافع المقاومة، ولا من أجل غزّة كما تدّعي، بل بدافعٍ خفيّ ومُخجل: لكي تُستأنف الغارات، وتواصل الطائرات الأمريكية مهمتها في قصف ما تبقّى من المطارات والمنشآت، وتدمير ما تبقّى من ملامح الدولة اليمنية.

لم تعد هذه الجماعة قادرة على العيش دون فوضى، ولم تعد تشعر بالارتياح إلا حين ترى ألسنة اللهب تتصاعد، وحين يُهدم جدار جديد من بنية اليمن المتداعية.

لقد صار الدَّمار بالنسبة لها ضرورة نفسية، توازي حاجتها إلى السلطة، بل وتفوقها.

الجميع بات يدرك -حتى أولئك الذين لم يقرأوا كتابًا في السياسة- أن هذه السلالة لا تنتمي لفكرة الدّولة، ولا تحمل مشروعًا وطنيًا. كل ما تقوم به هو استخدام الشعارات الدِّينية والمزايدات القومية كأقنعة تُخفي وجهها التخريبي العلني. 

لكن الأقنعة سقطت، والحقائق انكشفت، حتى للذين خُدعوا بها ذات يوم. حين قرعت طبول القصف الأمريكي، خمدت صيحات "الموت لإسرائيل"، وسقطت آخر ورقة تُوت كانت تحاول التستر بها.

بعد توقّف القصف، بدا واضحًا أن المليشيا قد فقدت ذريعة الصراخ، فلم يعد بإمكانها خداع الناس بمزاعم النّصر والمقاومة.

ومع اشتداد الخناق الاقتصادي والمعيشي على الشعب، ظهرت حقيقتها كما هي: كيان لا يعيش إلا في الظلام، لا يتنفَّس إلا على أنقاض الدّولة، ولا يزدهر إلا حين يعمّ الخراب.

ولأنها لا تريد لهذا البلد أن ينهض، أعادت المليشيا إطلاق الصواريخ، لا لتهدد العدو، بل لتستدرجه من جديد لقصف ما تبقى.

أرادت من الكيان الأمريكي أن يُكمل مهمّة التدمير، كأنها تقول له: "نحن بدأنا، وأنت أكمل". لم تعد تشعر بالطمأنينة إلا حين ترى الطائرات الحربية تمزِّق ما تبقى من معالم الحياة. 

لقد أصبحت ترى في الدَّمار نوعًا من الطمأنينة، وفي الخراب نوعًا من الرّاحة النفسية. هذا السلوك ليس سياسيًا فقط، بل مَرضي، وسادي، ينتمي إلى عقلية طائفية لا تستقر إلا في المستنقع.

المليشيا اليوم، وهي تُشرف على انهيار اليمن، تبتسم؛ لأنها تؤمن أن كلما تدمّر شيء من الوطن اقتربت من لحظة الانفراد المُطلق بالسلطة.

لم يعد يهمها الشعب، ولا الأرض، ولا السيادة، بقدر ما يهمها أن تنهار الدولة، حتى تبدو هي البديل "الوحيد" و"المنقذ" وسط الفوضى التي خلقتها.

تعمل المليشيا بمنطق غريب: إن لم تتمكن هي من تفجير الدولة بيديها، فلا بأس أن تستدرج العدو الخارجي ليقوم بالمهمة. 

إنها لا تجد في وجود الدّولة اليمنية سوى عائق أمام مشروعها الطائفي. وجود مطار، طائرة، ميناء، مؤسسة، يعني وجود نقيض لها، نقيض يحيلها إلى كيان طارئ وغريب. 

لهذا، فهي تسعى، بكل وسيلة مُمكنة، إلى تدمير هذا "النقيض"، حتى وإن استلزم ذلك جلب القصف الأجنبي، وتمهيد الأرض له.

الكارثة هنا ليست في استدعاء العدو، بل في النشوة التي ترافقه. كأنّها ترتاح حين ترى العدو يقصف؛ لأن في ذلك اعترافًا ضمنيًا بأن ما تبقى من الدولة يجب أن يُمحى.

الحوثي لا يريد لدولة أن تقوم، ولا لبنية أن تُرمم، ولا لقطاع أن ينهض.

كل ما يريده هو أن تظل اليمن محطّمة، مكسورة، مشلولة، ليُقال لاحقًا إنه "الطاغية" الوحيد المُمكن بين الرّكام، والسلطة "الواقعية" وسط الخراب. 

هذا المنطق الانتحاري هو ما يحرِّك قرارات الجماعة، وهو ما يجعلها أخطر من العدو الخارجي ذاته؛ لأنها لا تحارب من أجل الوطن، بل من أجل أن ينهار الوطن تحت قدميها، ليبدو وكأنّها الوريث الطبيعي لجثة الدولة.

إن ما تفعله هذه الجماعة اليوم لا يخرج عن كونه تنفيذًا حرفيًا لمشروع تخريبي عابر للحدود، مشروع سرطاني ينمو في الفراغات التي تخلقها الحرب، ويتوسّع حيث يموت الأمل. 

الحوثي في حقيقته يسعى إلى الخراب الكامل؛ لأنه في الخراب يجد شرعيّته الوحيدة. إنّه يشعر بلذّة عميقة حين يرى المطار مدمرًا، والناس محاصرين، والدولة مفككة. ذلك أن وجود دولة حقيقية يعني زواله، وعودة اليمن تعني نهايته.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.