مقالات
لم ننجُ من الحوثي وإيران فحصلنا على إسرائيل!
تتسلى الشرعية وناشطوها بالكثير من الأخبار الناجمة عن اشتباك الحوثي مع قضايا وملفات، وحتى تفاعلات داخلية للمليشيا. هناك الكثير ممّا يُهدر في الحديث عن "الانهيار الوشيك" للحوثي، عن الاختراقات والتصدّعات الداخلية، وعن الانشقاقات والرفض الشعبي المتصاعد، لكن أحدًا من هؤلاء لا يضع يده على السؤال الأهم: ما الذي تفعله الشرعية حيال هذه التطورات؟
منذ بداية الحرب، تشكّلت أوضاع وظروف مثّلت فرصًا استثنائية للتخلّص من كارثة الحوثي ومن الأوضاع القاسية التي أنتجها الانقلاب الطائفي وجعل البلد مستباحًا؛ من وقوف طلائع الجيش على مشارف صنعاء في السنوات الأولى للحرب، إلى تطويق ميناء الحديدة، في منتصفها، وحتى الضربات الأمريكية قبل أشهر.
تُدرك الشرعية بنسختها الأصلية والمعدّلة أنها لا تملك زمام نفسها، ويدرك جمهورها أنها أضعف من أن تقرر شيئًا. هذا الضعف الذي هيمن على شخوص القيادات، بالإضافة إلى انعدام الحد الأدنى من الحس الوطني المسؤول، لا يزال يشكّل ثقبًا أسود يلتهم كل المُمكنات المتاحة، وحتى تلك التي تصنعها سياسة الحوثي بنفسه للخلاص منه.
غير أن أسوأ ما رتّبه هذا الضعف هو سلب اليمنيين قرارهم الوطني، وتحوّلهم إلى بيادق بيد آخرين يقررون بالنيابة عنهم نقلتهم التالية.
لم يكن اتفاق ستوكهولم، مثلًا، تعبيرًا عن حاجة البلاد إلى سلام جزئي مع الحوثي، بقدر ما كان تعبيرًا عن رغبة دولية مدفوعة بظروف المتحكّمين بقرار الشرعية، للتخلّي عن أهم ما كان يمكنه أن يشكّل ضربة عسكرية قاسية للحوثي باستعادة ميناء الحديدة.
ومثلما كان الاتفاق جزءًا من جدول أعمال إقليمي دولي، فقد كان الانسحاب و"إعادة التموضع" تعبيرًا عن حاجة واضعي الجدول نفسه.
سيتكرر الأمر وصولًا إلى إعادة هندسة الشرعية نفسها، بإجبار الرئيس على نقل سلطته بالتزامن مع فرض هدنة كانت خلاصة تفاهمات التحالف مع الحوثي ومن خلفه إيران، ثم فرض خارطة حل كانت الشرعية "الجديدة" آخر من يعرف عنها!
لقد أُسدل الستار على الحرب الداخلية الكبيرة مع الحوثي عمليًا مع إبرام اتفاق الهدنة، غير أن المستجدات الإقليمية وحدها، وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وما ترتّب عنها من تداخل الملفات الإقليمية، هي التي أجهضت المسعى السعودي أو أجلته. لم تكن أمريكا لتقبل المكافأة السعودية في الخارطة للحوثي، وهو يقاتل ضمن محور إيران، والأذى الذي تسبب به للملاحة الدولية في البحر الأحمر.
هذه الظروف، التي أنتجتها مغامرات الحوثي ضمن الأدوار الوظيفية المسندة له إيرانيًا، كانت متغيرًا مهمًا يمكن البناء عليه لتغيير الأوضاع الداخلية للبلاد، لكنها ظلت رهن حسابات الفاعل الإقليمي، الذي أوهم حلفاءه أنه ينتظر التغييرات في البيت الأبيض ليُقرر.
لقد حدث كل شيء مرّة واحدة: جاء ترامب، وخاض حربًا مع الحوثيين في أطول جولة صممتها واشنطن، بينما استمرت الضربات الإسرائيلية، كما انتهت حرب غزة، لكن الحلفاء لا يغيّرون تكتيكاتهم!
في كل الأحوال، لم يكن الحوثي يشكّل تهديدًا مهمًا على أحد، بقدر ما شكّل تهديدًا خطيرًا على اليمن، إذ فتح أبواب البلاد على مصراعيها للتقسيم والاستباحة لكل القوى الإقليمية والدولية.
يعكس هذا فداحة ما صنعته النّخبة اليمنية المسيطرة بحق بلدها، فكلما أذعنت لما يريده الخارج كان ذلك مدعاة لتعقيد أكبر ومصدرًا لمتدخلين جدد يتناهشون اليمن ليكونوا فاعلين حاسمين في ترتيبات المستقبل. تخيّلوا حجم التدخلات التي تُتاح حاليًا لإسرائيل في المشهد اليمني، وقد يطال الجغرافيا اليمنية على ذمة مواجهة خطر الحوثي وإيران!
في النتيجة: لم ننجُ من إيران والحوثي، وحلّت علينا الكارثة بتدخل إسرائيل! يا لها من معركة!
يمكننا اليوم أن نتسلى بالحديث عن الضربات الكبيرة التي يتعرّض لها الحوثي على مستوى بنيته القيادية وحتى الاختراقات، عن التذمّر الشعبي الناجم عن الأوضاع الاقتصادية، وعن الانشقاقات، وكل ما يخطر ولا يخطر على البال، لكن هل يمكن ترجمة ذلك إلى تغيير للأوضاع القائمة؟
تذكروا جيدًا الأعذار التي قيلت لامتصاص سخط اليمنيين من حالة اللاسلم واللاحرب التي صممها الإقليم تعبيرًا عن اكتفائه منها. انتهت حرب غزة، والحوثي يواجه تذمرًا واسعًا في مناطقه دفعه لتكثيف حملات الاعتقالات، غير أن جائزة تنتظره في النهاية ممن يقررون بالنيابة عن اليمنيين: خارطة طريق لشرعنته!
لو أوشك الحوثي على الانقراض، مثل أي كائنات أخرى لأسباب بيئية، لاستنفرت القوى الإقليمية "المحبّة لليمن" لضمان بقائه وتناسله!
الحقيقة الناجزة: لم تكن هذه المليشيا مزعجة للإقليم كما نتوهّم دائمًا، بل كانت جزءًا من استثماراته لرؤية اليمن التي يريدون، وقد حقق لهم أكثر ممّا يتخيّلون.
موقف الخارج مفهوم في سياق نظرته "التقليدية" لليمن وحساباته "غير الشقيقة"، لكنني عجزت عن تفهّم هذا الانبطاح اليمني رغم أننا وبلدنا المتضرر الأوحد من الحوثي!