مقالات
مؤسسات حكومية لأصحابها!
التعافي المفاجئ للعملة المحلية أفصح عن جزء من الأسباب التي جعلتنا ندفع الثمن، لكننا حتى الآن لا نأبه.
طوال السنوات الماضية تكبد اليمنيون تبعات فادحة في سبيل البقاء على قيد الحياة وتفاقمت متاعب الغالبية العظمى منهم، ليس بسبب سوء الوضع الإقتصادي جراء الحرب، فحسب ، بل بالرعاية الرسمية لسوق المضاربة بالعملة.
لماذا أقول رعاية رسمية؟
لأن عدم اتخاذ إجراءات رادعة وضبط سوق العملة في زمن الحرب حيث ينهش الجوع المواطنين، هو شكل من الرعاية. أما غض النظر طوال هذه السنوات حيال سيطرة بعض مراكز النفوذ والمسؤولين على إيرادات المؤسسات الحكومية، فكان بمثابة دعم كامل لتحويل لصوص المال العام إلى تجار عملة.
من المؤسف أن العملية ظلت تدار خلف الكواليس بنوع من المداراة، وكانت تحضر في سياق التوتر بين الجهات المتصارعة داخل الحكومة، وبرزت مؤخراً في حديث تنقصه الصراحة من قبل محافظ البنك المركزي ورئيس الحكومة في وسط الكارثة.
عندما تحدث محافظ البنك المركزي عن 147 مؤسسة حكومية لا تورد عائداتها إلى الحساب العام للحكومة في البنك، كان الرجل يضع جزءًا من القصة أمام الرأي العام، كنوع من الضغط، وحينما التقط رئيس الحكومة طرف الخيط زاد الطين بلة، وذهب للتهديد بالكشف عن هذه المؤسسات فقط!
هذه الطريقة في التعامل مع المال العام، تشير إلى أن الأمر يمس جهات نافذة ولديها ما يجعل اثنين من أكبر المسؤولين، حذرين في " التورط" في المواجهة.
و عوض القيام بمسؤولياتهما، ذهبا لممارسة لعبة شد مع فساد تجاوز صورته التقليدية وصار إلى سلطات أمر واقع وأمراء حرب مسنودين بقوى خارجية، يبدو أن بوسعهم قلب الطاولة في أي وقت!
السياق الذي صدرت فيه تصريحات محافظ البنك ورئيس الحكومة، يشير إلى أن هذه المؤسسات التي تمتنع حتى الآن عن توريد عائداتها وهي بمئات المليارات، لعبت دوراً كبيراً في انهيار العملة المحلية وساهم المتحكمون بهذه المؤسسات ومن يحميهم بسرقة جيوب اليمنيين طوال سنوات وإرهاق حياتهم مرات عديدة.
أما كيف حدث ذلك، فيمكنكم إلقاء نظرة سريعة لسوق العملة وانتشار محلات وشركات الصرافة كالفطر وازدهار البنوك الغامضة، لتعرفوا أين كانت تذهب تلك الكتلة النقدية الضخمة من عائدات المؤسسات الحكومية.
ما من شك أن سلطات الأمر الواقع ورؤوساء هذه المؤسسات كانوا يتاجرون بهذا الفائض النقدي لشراء العملة الأجنبية وبالتأكيد فإن مئات ملايين الدولارات والريال السعودي تسربت إلى حسابات خاصة خارج البلاد.
أما المتورطون في هذا النهب ليسوا نكرات، بل ذوات كبيرة لديها سلطات خشنة ويتصدرون المشهد.
المشكلة أن هناك ما يشبه التطبيع الذهني مع الفساد حتى شعبياً وكأنه قدر اليمنيين في كل العهود. باسثتناء المظاهرات في حضرموت، وهي متشابكة الدوافع والأسباب، لم يخرج أحد للاحتجاج ضد هذه الممارسات، ولم نر أي جهد مدني لوضعها مرتكزاً لتحرك شعبي واسع لكبح جماح الفاسدين الجدد.
المؤسسات الواردة في تصريحات مقتضبة، لا تقتصر على محافظة بعينها بل تتوزع على عديد محافظات محررة، وتشمل موانئ ومؤسسات نفطية وأوعية إيرادية وهيئات ومصالح حكومية، تحولت إلى أملاك خاصة لأصحابها، مستندين على حضور قوي في بنية السلطة القائمة، وعلى ممارسة الجميع للفساد كمظلة حماية!
في أغسطس 2023 كشفت لجنة تقصي حقائق برلمانية عن فساد مخيف بمئات المليارات من الريالات ومئات الملايين من الدولارات في قطاع النفط والكهرباء والاتصالات والمالية العامة.
ومطلع العام الجاري تفجرت فضائح فساد بمليارات الدولارات في عديد مؤسسات شملت النفط ووزارة الخارجية، وأراضي وعقارات الدولة ومشتريات وقود الكهرباء، بعضها تم الاستيلاء عليها بشكل مباشر ووردت إلى حسابات خاصة.
الكل يدرك أن جذور الفساد الحكومي في اليمن ضاربة، لكن المخيف أن زمن هذا الفساد والنهب الطازج، هو نفسه زمن الحرب الذي سالت فيه دماء اليمنيين لمواجهة انقلاب الحوثي بينما كانت السيولة المالية تتدفق إلى الحسابات الخاصة لمسوؤلي الشرعية في الخارج!
المثير للدهشة أنه لم يعد أحد يسمع عن هذه القضايا شيئاً، كأنها كانت بمثابة شهادات تكريم لأصحابها!
انتهت جميعها في الإرشيف، إرشيف الحكومة والصحافة معاً!
في المعركة الحالية، ليس واضحاً ما إذا كانت قدرة الحكومة والبنك المركزي ستتمتع بالديمومة في لجم سوق العملة ومنع حدوث أي انتكاسة في ظل شحة موارد النقد الأجنبي والخضوع لإملاءات التحالف والحوثي، بشأن استئناف تصدير النفط والغاز.
لكن ماهو في حكم اليقين أن الممارسات الفاسدة التي كانت سبباً في تفاقم الوضع الإقتصادي وإنهيار العملة لن تتوقف ولن يحاسب أحد. مثلما انتهت سابقاتها في ذمة التاريخ، ستنتهي هذه الفضيحة رغم أن تداعياتها ما زالت تمس حياة الناس بصورة مباشرة، وسط انشغال عام بتفاهات لاحصر لها.
سنلاحظ أن لا حزب سياسياً واحداً تحرك من أجل هذه القضايا. لا حركة مدنية تشكلت للمتابعة، لا صحافة تتقصى مصير هذه الفضائح ومصير المسؤولين عنها، وكأن ثمة إجماعاً يمنياً أن الفساد في البلاد هو الحالة الطبيعية!