مقالات
مجلس القيادة الرئاسي والأسئلة التاريخية (4/3)
تاريخيًا، لا يوجد مبرر لوجود سلطة سياسية يقودها أشخاص حاكمين سوى كونها كيانًا سياسيًا معنيًا بتحقيق مصلحة المحكومين.
كما أن تطوّر مفهوم السلطة، وتحوّلها من سلطة للأشخاص الحاكمين بامتيازاتهم الشخصية إلى سلطة للمؤسسات الحاكمة باسم الدولة، لم يكن سوى انعكاس ومواكبة سياسية لكفاح الإنسان في سبيل الحرية، ونتيجةً فكريةً لتطوّر الوعي الاجتماعي تجاه المسألة السياسية.
فالإنسان الذي ذاق ذُعرًا، قبل قرون، من طيش السلطة السياسية وجنونها، وحتى من فساد واستبداد رجالها الحاكمين - كما هو الحال مع سلطة الحركة الحوثية الحاكمة في صنعاء - انطلق في رحلة كفاحه السياسي ليبتكر فكرة الدولة الحاكمة بعد أن تحوّلت السلطة في واقع الناس إلى مفسدة مطلقة. لهذا يقول "جورج بورديو" (مؤلف كتاب "الدولة"): "إن الدولة هي اللجام الذي يقيد جموح الحاكم".
ويضيف في الكتاب نفسه: "إن الدولة فكرة تُدرَك بالفكر".
هذا يعني أن الدولة وُجدت في سياقات سياسية تاريخية نضالية، أراد الإنسان من خلالها أن تكون الدولة فكرةً حاكمةً فوق أشخاص السلطة، الأمر الذي جعل الحاكمين والرؤساء في ظل الدولة موظفين يمارسون مهامهم بموجب دستورها. غير أن ما يميِّز موقعهم الوظيفي كحُكام على رأس سلطة الدولة أنهم يظلون أصحاب مسؤولية وطنية، وفي الوقت نفسه أصحاب قرارات سياسية وسيادية تتعلق بمستقبل الشعوب ومصيرها، بخلاف الموظفين الإداريين، هذا من جهة أولى.
ومن جهة ثانية، إذا كانت القرارات السياسية، التي يتخذها الرؤساء أو الحكام في ظل الدولة، تظل -من حيث الجدوى والصواب- قابلةً للتقييم بمعيار المسؤولية الوطنية، فإن معركة استعادة الدولة أو الانتصار لها على حساب السلطة (كما هو الحال في اليمن) لا تتطلب رئيسًا تنطبق عليه شروط الرئاسة الخالية من الموانع فحسب، بل تتطلب رئيسًا بمواصفات القائد التاريخي القادر على صنع التاريخ وتحولاته السياسية والوطنية نحو المستقبل الذي ينبغي لليمن أن تكون عليه في القرن الواحد والعشرين.
وانطلاقًا من هذه الخصوصية في مواصفات القائد، تبرز بعض الأسئلة التاريخية، التي ستتكرر تراجيديًّا على لسان الأجيال القادمة، مثل: هل أعضاء مجلس القيادة الرئاسي هم حقًّا قادة سياسيون وتاريخيون لهذا الشعب، خاصةً فيما يتعلق بقيادة معركة الانتصار التاريخي للدولة الوطنية الديمقراطية في اليمن؟ أم هم مجرد موظفين بلا مسؤولية وطنية على رأس سلطة سياسية أصبحت مُسْلَوبة الإرادة والسيادة؟
صحيح أن هذه الأسئلة قابلة للتجدد مع كل مستجد سياسي وعسكري في اليمن، لكن الأهم من ذلك: ماذا في جعبة أعضاء مجلس القيادة الرئاسي للرد على هذه الأسئلة التي لا مفر من تداولها على لسان الكثير من الحالمين بفكرة التغيير في هذه البلاد؟
إذا كان لسان حال أعضاء مجلس القيادة الرئاسي يقول: "نعم، نحن قادة للشعب اليمني في هذا المنعطف التاريخي"، فإن هذه (نعم) سوف تتحوّل إلى شيء من الجسارة غير المقبولة إلا بدليل إثبات.
وبدونه، فإن "نعم" هذه سوف تضع أعضاء المجلس في قفص الاتهام أكثر من أي وقت مضى، فهي تفتح محاضر تحقيق فيما يتعلق بدور القائد التاريخي في هذه الظروف، وفي الوقت نفسه تستدعي أسئلة أخرى تتعلق بالمسؤولية الوطنية تجاه الشعب اليمني، مثل:
"في ظل سلطتكم السياسية، لماذا لم يتم تصويب بوصلة الشرعية اليمنية نحو أهدافها المستقبلية بناءً على الأسباب الثلاثة المذكورة في صدر هذه الدراسة؟
(بمعنى: تحويل الشرعية على المستوى الوطني إلى بديل سياسي وأخلاقي على حساب سلطة الحركة الحوثية الانقلابية).
وفي أدنى الأحوال: لماذا لم يتم تحويل سلطتكم السياسية إلى دولة حاكمة في المناطق المحسوبة على الشرعية؟
(بمعنى: خلق النموذج الوطني الذي يعزز ثقة الداخل والخارج بالشرعية كسلطة سياسية ومشروع سياسي).
وفوق هذا وذاك، من معركة البنك المركزي مع الحركة الحوثية وحتى العدوان الأمريكي على صنعاء: لماذا تم إهدار الفرص التاريخية الكفيلة بتقويض سلطة الحركة الحوثية الحاكمة في العاصمة صنعاء، خصوصًا بعد انهيار المحور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط؟
(بمعنى: ماذا تعني لكم القيادة السياسية في ظل إهدار الفرص التاريخية المتعلقة بمستقبل الشعب اليمني؟ إذا كان إهدار فرصة واحدة لا يعني فقط منح الحوثيين مزيدًا من القوة والثبات في مناطق سيطرتهم السياسية والعسكرية، بل يمنح منابرهم الإعلامية والسياسية أصواتًا عالية تعزز معنويات أنصارهم وحاضنتهم الشعبية، بعكس التذمر الشعبي الذي يحدث في مناطق الشرعية!).