مقالات
من الاجتهاد إلى الجمهورية (4)
بقيام ثورة سبتمبر عام 1962م، طال التغيير الأصول الحاكمة للنظام السياسي، ولم يتوقّف عند شخصية الحاكم، الذي يُعتبر مسألة شكلية، أو فرعية، لا يشكل استبداله أي تغيير في حياة المجتمع.
إن التحرر الفكري، الذي أفرزته مدرسة التحرر والاجتهاد اليمنية، التي ترى بأن الاجتهاد ليس محصوراً على المسائل الفرعية، بل يمكن للتجديد أن يطال مسائل الأصول، سهّل وساعد على قِيام النظام الجمهوري، وتحرُر الأوضاع في اليمن من أسر الجمود التاريخي، الذي جعلها -وهي تعيش في القرن العشرين- تحيا ضمن حياة القرون الوسطى.
لقد كان للنظريات السياسية العقيمة، التي كانت تستمد منها السلطة الإمامية، آنذاك، مشروعيتها في الحكم، الدور الأكبر، في تقييد حركة المجتمع وتطوره.
لم تكن ثورة سبتمبر المباركة عام 1962، في انطلاقتها، محكومة بنظرية الخروج على الظالم، التي يقول بها المذهب الزيدي، تلك التي تسعى إلى تغيير شخصية الحاكم الفرد، واستبداله بآخر، بحيث تتوقّف عند ذلك الأمر وتكتفي به، دون أن تصل إلى جذر القضية، بل كانت ثورة استهدفت تغيير منظومة الحكم بأكملها، وهي من هنا لم تستمد من المذهب الزيدي المسوّغ الشرعي، للثورة والخروج، الذي يُتيح الاجتهاد في الفروع، ويحول دون تجديد الأصول، ومن هذه الأصول مبدأ الإمامة المحصورة في البطنين فقط: الحسن والحسين أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، من زوجته فاطمة -رضي الله عنهم- بل استمدت مسوغها الشرعي للثورة من مدرسة الاجتهاد اليمني، التي لا يتوقف لديها التجديد عند الفروع، بل يمتد إلى الأصول، فجاءت ثورة سبتمبر وغيّرت أصول المنظومة السياسية للحكم.
كانت جولات الحروب، في الماضي، تعيد تكرار نفسها، لأن الأصول الحاكمة للصراع حول السلطة ظلت ثابتة، ولم يكن يمسها أي تغيير. بحيث كانت المظاهر الخارجية هي التي يتم تبديلها عقب كل صراع. وذلك لأن الصراعات حول السلطة، ومن أجلها، كانت تستهدف شخصية الحاكم، لا منظومة الحكم، ولذا ظلت حروبنا جولات متكررة.
ومنذ سبتمبر عام 1962، جرى التغيير في الأصول الحاكمة للسلطة، ومن الصعب على أي طرف أو تيار اليوم أن يتمكّن من تغيير قواعد السلطة التي تم تثبيتها منذ السادس والعشرين من سبتمبر 1962، والقتال الدائر اليوم ليس تكراراً لدورات الصراع التي عاشتها البلد في السابق طوال قرون.
عبّدت مدرسة الاجتهاد الطريق أمام قيام النظام الجمهوري، عبر إسهامها في إقامة التقارب بين سكان اليمن، من أتباع المدرستين الفقهيتين، وجعلت من قيادات الأحرار، التي تقتفي أثرها وتعتبر نفسها امتداداً أصيلاً لهذه المدرسة، أكثر قرباً في خطابها إلى عقول العامة، الأمر الذي مكّنها من ترسيخ النظام الجمهوري وتبنّيه، في المناطق التي كانت مغلقة على الإمامة، والتصدّي لدعاة الملكية من الناحية الإعلامية والثقافية.
إن ثورة سبتمبر لم تأتِ إلا وقد أضعف رجال اليمن من لدن ابن الأمير، والشوكاني، وتلامذة الأخير، وحتى الأحرار، عقيدة آل البيت. وقد سار الإمام الشوكاني في تحقيق ذلك، من خلال نزع مرجعية المذهب، وأعادها إلى القرآن الكريم، وإلى صحيح السُّنة النبوية، واعتبار صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم القدوة في ذلك.
لعلّ أهم تأثير لمدرسة الشوكاني على الحياة السياسية، والثقافية، جاء من خلال كتاباته واجتهاداته، التي استطاعت أن تقف في وجه الصراعات على قاعدة مذهبية، "وبينما تعتبر مساهماته وكتاباته العلمية المتعمّقة في الفقه الزيدي مهمّة من حيث صحتها وموضوعيتها، فإن أهم تأثير له على الحياة الثقافية والسياسية هو أنه استطاع التخفيف من حدة الخلافات المذهبية بين الفرق الإسلامية المتواجدة داخل اليمن، تحديداً الزيدية والشافعية والإسماعيلية، وكان ميله الشديد إلى علم الحديث وأسانيده من جهة، وإعراضه عن علم الكلام من جهة ثانية، موضع خلاف دائم بينه وبين أقرانه من العلماء الذين أنكروا عليه أول الأمر، "لكنهم بعد مناظرات فكرية أذعنوا لعلمه وسعة اطلاعه، وذلك بعد إقناع وحجة" [د. عبدالعزيز المسعودي- "الشوكانية الوهابية"]
تمكّنت أطروحات الإمام الشوكاني واجتهاداته من إقامة جسور التقارب بين اليمنيين، بمختلف اتجاهاتهم، واستطاعت أن تنزع الغلو والتشدد، وتقف ضد التكتلات السياسية على أسس مذهبية وطائفية، حيث "استطاع ردم الفجوة التشريعية بين اتباع المذهبين الكبيرين في اليمن، وظل متمتعاً بمكانة رفيعة في اليمن الجمهوري، كما وفي عهد الأئمة" [برنارد هيكل - "الشوكاني والوحدة التشريعية لليمن"، ص21، د. أحمد عبدالخالق الجنيد- "دراسات قانونية"، عدد 3، السنة الأولى، يوليو – سبتمبر 2009، مركز الدراسات والبحوث اليمني]. فأطروحاته العلمية واجتهاداته الفقهية، خلال عهد الإمامة منذ نهاية القرن الثامن عشر، حظيت "بقبول واسع بين السُّنة الشافعية الذين شكلوا الغالبية العظمى من رعايا الإمامة في نهاية القرن الثامن عشر". ولم يقتصر ذلك في حياته، بل تواصل بعد وفاته حتى وقتنا الحاضر، ويؤكد على ذلك الدكتور برنارد هيكل بقوله: "ويجدر بنا كذلك القول بأنه، وبنفس الطريقة، ولكن لأسباب أخرى رأت ثورة 26 سبتمبر والجمهورية العربية اليمنية في الشوكاني الشخصية التي لا تزال توحّد اليمنيين بعد زوال نظام الإمامة، إذ لا تزال أعمال الشوكاني وآراؤه الفقهية ذات أثر على التشريعات، وعلى الوعي العام في اليمن" [المصدر نفسه].
أنجزت ثورة سبتمبر تسوية تاريخية بين أصحاب المذهبين في اليمن، وذلك بالاستناد على فكر الشوكاني واجتهاداته، التي قاربت بين اليمنيين، وأزاحت الفواصل، والحدود المذهبية، ونزعت التعصّب بين اتباع المذهبين.
لقد "كان الأحرار أقرب في فكرهم إلى ما يسمّى مدرسة التحرر الفكري غير المتعصبة لمذهب بعينه، والداعية إلى العودة إلى الكتاب والسنة، والأخذ بأصح الروايات، وبما يَجمَع الأمة الإسلامية، ولا يفرقها"، [د. علي محمد زيد الثقافة - "الجمهورية في اليمن"، ص133].
فلم تختلق ثورة سبتمبر شخصية الإمام الشوكاني، وترفع من شأنه بدعا، فقد اتخذته الثورة رمزا، مثلما كان الأئمة من آل القاسم يجدون في توجّهاته إضفاء لشرعيتهم، وتقبلهم في المناطق ذات الانتماء للمذهب الشافعي، ومن هنا كان الشوكاني ومدرسته عامل تقريب بين اليمنيين، سواء في عهد الإمامة أو العهد الجمهوري، ووحدهم المتمذهبين، والمقلّدين، والمتعصبين من يرون غير ذلك.
وما يعزز من اقتفاء جميع القوى، والقيادات، والتيارات في اليمن أثر مدرسة الاجتهاد اليمنية الرافضة للتمذهب، والنابذة للتعصب المناطقي، أن اجمعت كل القوى والقيادات السياسية المختلفة على رفضها، وانتقادها لخطاب البيضاني المتطرّف والمتشنج، الذي انطلق يثير الحزازات ويستفز العصبية المذهبية في اليمن، فكان موقف الشخصيات الوطنية، سواء منها ذات الانتماء الشافعي، أو القريبة من عبدالناصر، أو الجماهير المتأثرة بخطاب القومية العربية، متوحّدة في رفضها للخطاب المذهبي في تحريض الجماهير. ويذكر المؤرخ اليمني للحركة الوطنية، سلطان ناجي، أن عبدالرحمن البيضاني وصل، في أغسطس من عام 1963م، إلى مدينة عدن، وسعى إلى التحريض على أسس مذهبية، فما كان من الجماهير إلا تصدّت له، وتعرّض نشاطه ودعوته التي وجهها من خلال خطابه في أحد نوادي 'كريتر' بعدن إلى الاحتجاج والاستياء الشديدين من قِبل المستمعين، وقاموا برجمه".
سعى الأحرار -بعد قيام الجمهورية مباشرة- إلى ربط حركة النضال، وقيام النظام الجمهوري، بمدرسة الاجتهاد اليمني، وروّادها الأوائل، وذلك من خلال إصدار كتاب يتناول حياة أحد أعلام هذه المدرسة، وهو العلامة المجتهد المطلق محمد بن إسماعيل الأمير، حيث "أراد المؤلفون التأصيل الفكري للنظام الجمهوري، باعتباره نظاما سياسيا عادلا يوفّر المساواة والمشاركة الشعبية وفرص التنمية، وتمتع جميع المواطنين بخيراتها، وأن يعودوا بالجذور التاريخية إلى الجمهورية إلى معارضة التمييز ورفض الحكم والغلبة، استنادا إلى النسب والوراثة، وليس إلى خدمة الشعب، وما يقدَّم له من فرص للحياة الآمنة المستقرة والكريمة". [علي محمد زيد- "الثقافة الجمهورية"، ص136، 137].
ويعد كتاب ابن الأمير وعصره "أول كتاب يصدر في عهد الجمهورية، وأول تأصيل نظري لدعوة الجمهوريين إلى رفض أيديولوجيا الإمامة، وإلى أن يكون الحكم للشعب، وأن يكون الحاكم من يختاره هذا الشعب لا من يفرض نفسه بغلبة السلاح، والتبرير بالنسب"، [المصدر نفسه].
إن الوصول إلى الجمهورية، التي غيّرت الجذور والأسس لمنظومة السلطة، كان الخاتمة المستحقة، التي وصلت إليها اليمن في منتصف القرن العشرين، وإن التطورات والتفاعلات الداخلية كانت هي الأصل في تحقيق قيام النظام الجمهوري، وأن العامل الاقليمي كان مساعدا.
إن لمشروع مدرسة الإحياء، التي أرساها عمالقة ورجال مدرسة الاجتهاد اليمني، منذ القرن الثامن والتاسع عشر، دورا مهما في تقبّل اليمنيين النظام الجمهوري، وعدم معارضته على أُسس مذهبية، وفي تقبّل اليمنيين له.
ويؤكّد قدرة المدرسة اليمنية وروّادها على تجاوز المذهبية المنتنة.
إن الجمهورية اعتمدت واستندت فكريا على مدرسة الشوكاني، واستطاعت أن توحّد الوجدان الجمعي والفكر الوطني شمالا وجنوبا، سهلا وجبلا، ساحلا وواديا، وأن تقف في وجه الدعوات المذهبية، وتحول بينها وبين المجتمع، في التحريض على الصراع.
كان لأفكار مدرسة الاجتهاد اليمني - التي ترى أن المذهبية، والتعصب، والتخندق خلف الولاءات الضيّقة، سبب رئيسي في ضعف الأمة الإسلامية، وتفرقها - دور فاعل أيضا في قبول الدعوات القومية التي تسربت إلى اليمن، وتشرّب الجماهير لها في المناطق النائية من البلاد، لأنها تلتقي مع أفكار روّاد الاجتهاد والتجديد في هدف صيانة وحدة الأمة من التمزّق، والتفرّق، والتفكّك، الذي جعلها ضعيفة، وقادها لتكون فريسة سهلة للاستعمار الغربي، كما تلتقي دعوة الاجتهاد والتحرر الفكري والعقلي مع دعوات التحرر الوطني، التي انطلقت في البلدان العربية، إلى التحرر من الاستعمار، وكان الشعب اليمني من طلائع الشعوب التي تقبّلت وتشرّبت دعوات التحرر والثورة على الاستعمار الأجنبي، بل كانت ثورتها ضد الاحتلال البريطاني من أعظم ثورات التحرر في العالم الثالث.
وفي هذا السياق، يمكننا أن نشير إلى أن ثورة سبتمبر كانت اللبنة الأخيرة لمشروع الاجتهاد والتنوير والتجديد، التي قدح نارها زعيم الإصلاح، ومجدد القرن الثالث عشر شيخ الإسلام الشوكاني، فكان إعلان الجمهورية هو الخطوة الأخيرة في ذلك المشروع، مع عدم إغفالنا التطورات السياسية التي جرت في العالم من حولنا، وتأثر اليمن بها.