مقالات

موت من كان يرى في السياسة حياة

25/10/2025, 05:54:25

توفي الدكتور محمد الظاهري. سمعتُ الخبر، وشعرتُ كأن جزءاً من ذاكرة الجامعة وروح السياسة انطفأ. اعتدنا في قاعات الدراسة معه على التوسع من شرح نظريات السياسة وقواعد المنهج إلى إجراء نقاشات حول السياسة نفسها.

نقف أمام رجلٍ يعيد معنى السياسة في كل جملةٍ يقولها.

كنت أحد طلابه في قسم العلوم السياسية، في تلك القاعة التي صارت بالنسبة لي أول مكان اكتشفتُ فيه أن الأكاديمية يمكن إنقاذها من البرود والتنميط، ويمكن أن تصبح سياسةً وحياة.

يقدّم العلم بطريقةٍ مختلفة. يشرح المناهج ويستعرض الظواهر السياسية من منظور البحث والتحليل، لكنه كان يترك دائماً مساحةً للإنسان في المعادلة، مساحةً للمعنى، وللكرامة، وللقيمة. يقول إن العلوم الإنسانية ليست علماً بارداً، إنها محاولة للفهم وسط تناقض البشر، وإن القواعد العلمية أدواتٌ للفهم وليست قيوداً أمام الحياة والسياسة.

تحدّث كثيراً في قاعة الدراسة عن علاقة العلم والفكر بالأخلاق والقيمة والسياسة. كان يرى الفكر مجرد آلة إن هو انفصل عن الأخلاق.

في القاعة سمعتُ منه كثيراً عن خطورة أن يكره الناس السياسة. كان يردد أن النفور من السياسة نوعٌ من سياسة القوة المهيمنة، سياسةٌ خطِرة وموجّهة ضد الذات. كان يرى أن من يُبعد الطلبة والشباب عن الشأن العام يفعل ذلك ليحتكره، وأن النظام الذي يُخَوِّف الناس من السياسة يريدهم تابعين وأدوات، ويرفض أن يكونوا شركاء أو مواطنين.

في محاضراته، كان يُعرّي الدكتور الظاهري تلك الفكرة التي زرعتها السلطة: "ركّز على دراستك ولا تقترب من السياسة"، ويقول إن هذه الجملة ليست نصيحةً بقدر ما هي طريقة لتجريد الإنسان من مسؤوليته ومن حقه في المشاركة وتحديد مصير حياته وبلده.

ناقشنا يوماً كيف تحوّل الخوف من السياسة إلى ثقافةٍ تغذيها السلطة. يقول: نحن أمام سلطةٍ لا تكتفي بالقمع والترهيب، إنها تصنع وعياً يبرّر القمع ويعادي السياسة، وتجعل من النفور من السياسة فضيلة، ومن اللامبالاة ذكاءً ونجاحاً.

الفكر في نظر الدكتور لا يعيش في المعمل ولا في الورق، الفكر طريقةُ حياة. الفكر حياةٌ كاملة، إدارةُ صراعات الإنسان وتهذيبُها. يعيش الفكر في الشارع والفضاء العام، وفي قلب التحديات الملازمة للحياة، وفي قدرة الناس على الفعل.

يمكنك استفزاز الدكتور بحصرك للجامعة والعلم في الروتين اليومي داخل الكليات والقاعات. كان يرى الجامعة مجالاً عاماً يُفترض أن يتعلم فيه الطلبة كيف يفكرون وكيف يتساءلون، لا كيف يُطيعون ويتوظفون.

في أول محاضرة، كان الدكتور محمد يحذّر طلبته من الإصغاء للدرس الخفي الذي يُكرّس لدى الطالب الجامعي أن السياسة خطر، وأن الاقتراب منها يورّطه. "سيقولونها لك بلغة النصيحة: اهتم بدراستك ودع السياسة لأهلها"، وكان الدكتور الظاهري يرى في هذه الجملة مشروعاً متكاملاً لإنتاج إنسانٍ منزوع الصلة بالشأن العام، إنسانٍ يعرف الروتين واللوائح ولا يعرف الكرامة والحرية، ولا يطمح للتأثير والقيادة.

كان يرى أن من يخاف السياسة يفقد قدرته على أن يكون حراً. في نظره، الخوف ليس طبيعياً، إنه صناعةٌ متقنة تقوم بها السلطة لتحتكر الفعل العام.

كان يشرح أمام الطلبة كيف تتحوّل الأكاديمية إلى أداة طاعةٍ حين تنفصل عن المجتمع، وكيف يتباهى الأستاذ الجامعي بأنه "غير سياسي"، والسلطة تصفق له لأنه لا يشكّل خطراً.

كانت الجامعة اليمنية تفقد روحها. فقدت كونها مساحةً للحوار والإبداع والتفكير والنقاش. كانت مكاناً لتخريج موظفين يطيعون أكثر مما يفكرون ويتساءلون، معملاً لتخريج موظفين بلا وظائف.

وهناك كان الظاهري يحاول أن يُبقي شيئاً من الروح حيّاً. يجلس مع طلبته بعد المحاضرات، يحدثنا عن اليمن كإمكانية وذاتٍ وروحٍ وشعب، عن الحرية كمسؤولية، وعن الفعل العام بوصفه أخلاقاً وطموحاً معاً.

في العام 2011 جاءت الثورة، فرأيته كما عرفته دوماً: في المقدمة. مظاهرةٌ خرجت من بوابة الجامعة، وكنا معاً. هو يتقدّمنا بخطاه اليقِظة والهادئة نفسها، بعينيه اللتين لا تريان الخوف. لم يكن ثورياً من مقعده، وإنما من الميدان، من الفعل، من قلب الخطر وفي قلب التحدي.

حين أصابته رصاصات السلطة في كتفه، حاولتُ رفعه. ذهبنا راجلين نحو كيلومتر إلى أن صادفنا "متر"، وضعتُ الدكتور وكنت أمسك يده وقد صارت شبه مبتورة. تذكّرت في تلك اللحظة اليد نفسها حين كانت تكتب في السبورة بقاعة الدراسة.

همس الدكتور وهو يرى ذراعه شبه مبتورة واحتضنها: "لم نكذب عليكم، لم ندفعكم للثورة ونبقى في القاعات."

الجملة علِقت في الذاكرة أكثر من أي درسٍ في القاعة. كانت خلاصة ما آمن به، إذ يموت الفكر حين لا يتحوّل إلى فعلٍ عام.

مقالات

في اليمن.. الشعب هو البطل والمنقذ

يُعدّ الإيمان بفكرة “المخلّص” أو “المنقذ المنتظر” أحد أقدم الأنماط في الوعي الجمعي الإنساني، وقد وجدت هذه الفكرة تعبيراتها المتعددة في الأديان والمذاهب والفلسفات السياسية على حد سواء. فهي تظهر كلّما ضاقت الأفق، وتراجعت ثقة الجماعة بقدرتها على التغيير الذاتي، فتلجأ إلى الحلم بقدوم من يُعيد إليها العدل المفقود والكرامة المسلوبة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.