مقالات

نظام الحكم ورحلة الإنسان الحقوقية

16/08/2025, 19:40:45
بقلم : زهير علي

اختيار نظام الحكم، من حيث كونه جمهوريًا أو ملكيًا، حالة تتشكل بناءً على عوامل معقدة، وليست من البساطة التي يكتشف فيها بعض الناس فجأة ما يناسبهم ثم يختارونه، ويلاحظونه يتحقق وينجح تلقائيًا دون جهد. وإنما يمكن النظر للأمر من عدة زوايا، وسأتناول هنا ما يتعلق بمسار نضال الإنسان لنيل حقوقه السياسية والمدنية، وحفظ كرامته، وسعيه للاقتراب من قيم العدل والمساواة.

يمكن أن ننطلق من القول إن النمط الملكي كان السائد في التجربة التاريخية للعديد من الشعوب والحضارات، ويكاد يكون هو الأصل، على الأقل في آخر خمسة آلاف عام تقريبًا، أي منذ بداية الكتابة ومعرفة بعض نظم حكم المجتمعات القديمة. إلى جانب ذلك، كانت هناك تجارب جمهورية نادرة هنا أو هناك، أو في مراحل معينة فقط عند بعض المجتمعات.

إذا رأينا تطوّر النظم السياسية عبر التاريخ وحتى الآن، وفي علاقتها بالحقوق، فهي تشير إلى مسار الانتقال من سلطة الملك أو الفرد المطلق إلى حكم الشعب، وتتسق مع نضال الإنسان من أجل نيل حقوقه، وحفظ كرامته، وتغيير نظرته لنفسه وللدولة، أو استعادة جوهر نظرته لنفسه ووضعها في تصوّر جديد يليق بها. وسنرى أيضًا أن النظام الجمهوري يعد مرحلة متقدّمة، ويتسق مع هذه الحقوق والتصوّر، وهو التعبير الأنسب عنها، والرمزية الأساسية التي أنتجتها أهم نضالات الشعوب لتحقيق قيمة المساواة والعدل. ولهذا ظهرت الجمهوريات وتزايدت أعدادها في القرون الأخيرة أو العصر الحديث مع تغيّر هذه النظرة لعلاقتنا بالدولة ولحقوقنا، وهو تزامن متعلق بالديمقراطية، وما النظام الجمهوري سوى أيقونة لتلك الغايات.

ورغم هذا المسار التاريخي العام في تجربة الإنسان الحديث، فإن هناك العديد من النظم المعاصرة التي تمكنت من الحفاظ على الملكيات في العالم، ولأسباب عدّة، منها التكيف مع مطالب الحقوق عبر المضي قُدمًا في تطوير علاقة الفرد بالدولة، والحد من سلطات الملك، وتعزيز حقوق المواطنة، أي الاقتراب من أو الوصول نسبيًا إلى جوهر تلك الغاية التي ينشدها الإنسان الحديث في الدولة.

ويقول لنا علماء الاجتماع والسياسة إن الانتقال التاريخي من الملكيات إلى الجمهوريات لا يتم اعتباطًا، كأننا نقوم بشراء ثوب للدولة، أو نستعين بخبير ليكتشف المقاس المناسب، وليس متعلقًا بإكراهات حتمية لا مفر منها، وإنما يتم ذلك من خلال ما تفرزه محصلة التفاعلات في التجربة التاريخية والسياسية للمجتمعات، التي تؤدي إلى استقرار نظام ما. وأنا هنا أتحدث عن الشكل الجمهوري أو الملكي في إطاره العام، وليس عن تفاصيل النظام السياسي.

أما فيما يتعلق بالحقوق وكرامة الإنسان والمساواة، وعلاقة الفرد بالدولة، فهي قيم وترتيبات خاصة، وهي بالضرورة لا تخص مجتمعًا بعينه، وإنما تخص جميع البشر، وليس هناك أفراد أو شعوب لا يستحقون المساواة والعدل، فهي في جوهرها قيم كونية.

وبما أن هناك ملكيات استطاعت أن تلبِّي جوهر هذه القيم عبر فكرة الملكية الدستورية، وتحوّل الملك إلى جزء من التقاليد لا غير، فهي بذلك قد تكيّفت مع العصر وحقوق الإنسان الأساسية.

وقد يقول البعض إننا تحدثنا عن العام أو عن القصة الكبرى، ولكن ماذا عن الخصوصية، ودور التجربة الذاتية لكل شعب، أو القصة الصغرى؟

وبرأيي، لا فرق يُذكر في القصة الصغرى بشأن وجود أي من النظامين في شكلهما العام، مع التأكيد على أن الجمهورية أعلى في سلم القيم، وأصدق رمزية وتعبيرًا عن سلطة الشعب والمساواة، ولكن من يحدد الاختيار هو الظروف السياسية والاقتصادية وتفاصيل التجربة الخاصة. وتظهر آثار القصة الصغرى في التفاصيل التي تنتجها، وتتشكّل من خلالها طبيعة النظام الملكي الخاص بها، وبالمثل طبيعة النظام الجمهوري فيها. فليست كل الجمهوريات ولا الملكيات متطابقة، وإنما ينتج كل شعب تفاصيله وصبغته التي تجعل جمهوريته أو ملكيته تشبهه، والتي لا يمكن أن تكون أيضًا صورة جامدة، وإنما حركة تتأثر وتعيد تشكيل نفسها جزئيًا مع تطوّر وحركة المجتمع.

وبالعودة إلى أحد أسئلتنا الجوهرية في هذا السياق، وهو عن سبب وجود الجمهوريات الحديثة، بالرغم من قدرة بعض الملكيات على الاحتفاظ بالشكل القديم للسلطة، وتفريغ الملكية من مضمونها القديم لتعبّر عن جوهر قيم المساواة وحكم الشعب، فالجواب قد يتعلق بعوامل عدّة، كما هو الحال في ظواهر الإنسان الاجتماعية. ومع ذلك، أرى أن أهمها هو طبيعة وطريقة التحول لنيل تلك الحقوق، أي الطريقة أو نمط التفاعلات التي ينتجها كل مجتمع في سبيل نيله لتلك الحقوق السياسية والمدنية.

حيث يبدو أن المجتمعات التي لم تتمكن من نيل حقوقها أو الاقتراب منها، سوى بالعنف أو الثورة، غالبًا ما تنتج تجربتها أنظمة جمهورية، بينما المجتمعات التي لم تحدث فيها ثورة شعبية، أو لم يقم فيها جزء من الشعب بانقلاب عنيف، وقامت فيها الملكية بالانتقال لنمط الحكم الحديث عبر الإصلاحات، فهذا النمط تمكنت فيه الملكيات من الاستمرار. بالإضافة إلى تلك الملكيات التي تستطيع أن تؤجل منح الحقوق ودور الشعب عبر المراهنة على توفير دولة رخاء، وإجراء إصلاحات تدريجية بطيئة.

وفي اليمن كان يطمح ويسعى أجدادنا لنيل حقوقهم، وحفظ كرامتهم، واقترابهم من العدل والمساواة، وبدأ نضالهم تدريجيًا حتى الوصول إلى مطلب تقييد سلطات الحاكم الملكي والتحول إلى الملكية الدستورية. غير أن فشل تلك المحاولات وغياب خطوات الإصلاح أدى إلى اتباع خطوات ثورية من المواطنين أو بعضهم، وهو بدوره ما أدى إلى قلب وإلغاء فكرة السلطة الملكية ككل.

ومن المنطقي عقب ذلك أن يزهد الكثير من اليمنيين في إصلاحها؛ كونهم برد فعلهم الثوري تجاه الأفق المسدود قد تجاوزوا مرحلة الحاجة للاحتفاظ بأي شكل رمزي وتقليدي للملكية، خاصة إذا كانت هذه التقاليد تتضمن أكثر من البعد التاريخي والإنساني، وإنما تتضمن بعدًا عصريًا لا يستطيع الغالبية قبولَه، ويرفضونه بعقولهم وقلوبهم ودينهم وإنسانيتهم. ولهذا كان من الطبيعي أن تغلب الكفة لصالح تبني النظام الجمهوري، الذي يعبر بحق عن جوهر حكم الشعب والمساواة من حيث الرمزية على الأقل.

ومن غير المعقول أن نعود خطوة إلى الوراء ونحن في غنى عنها، وإذا كان لدينا هذا الترف في التجريب، فلا يمكن إنفاقه على تصورات غير مؤسسة على حقائق العلم والتجربة الإنسانية. علينا إنفاقه في إصلاح تجربتنا الجمهورية ومواءمتها مع طبيعة مجتمعنا والقيم المنشودة. فالمعركة الحقيقية هي في بلوغ جوهر تلك الغاية من الدولة، وإصلاح التجربة وتحقيق الاستقرار، وليس التركيز على الشكليات أو العودة إلى الوراء، أو محاولات إرضاء أطراف خارجية بحيث تتكيّف اليمن مع رغباتها حد الإلغاء لتجربتنا وخصوصيتنا بحجج وهمية لا علاقة لها بالخصوصية اليمنية.

الأجدر هو أن تتكيّف اليمن وشقيقاتها مع حقوق وكرامة الإنسان عبر إجراء الإصلاحات السياسية اللازمة، وليس فقط الاقتصادية، والاهتمام بسبل التعاون والسلام والتكامل على المستوى الخارجي بين الأشقاء والجيران، والسير نحو الغايات ذاتها، ولكن كلٌ حسب شكل تجربته ونظام حكمه. تلك الغايات المتعلقة بحكم الشعب ستجعلنا متشابهين مع جيراننا في الجوهر رغم الاختلافات الشكلية في النظم، وتجعل الإنسان اليمني يمارس حقوقه وخصوصيته الحقة، ويصيغ نظامًا جمهوريًا يشبهه ويعكس إرادته، ليس اليوم فقط، وإنما سيشبهه أيضًا حين يتغيّر في الغد، ويصبغ بصبغته، ويتطوّر معه، فهو يخفق حين نخفق، وينجح حين ننجح.

مقالات

حين يصادرون مبادئك

يموت الشاعر أو الكاتب أو غيره من أرباب الفكر والقلم على مبدأ، فيتفاجأ كل محبيه بأن جماعة قد استولت على كل ما عاش يتجرّع المرَّ من أجله

مقالات

غزة.. أين الخلل؟

أكان يستطيع الكيان النازي أن يرتكب المجازر البربرية التي ارتكبها ولا يزال، لو أن الدول العربية ديمقراطية؟

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.