مقالات
هل استوت الطبخة التي سيتذوّقها اليمنيون؟
قبل أن يغادر الرئيس الأمريكي، بارك أوباما، البيت الأبيض، مطلع العام 2017م، بعد ثماني سنوات من محاولاته إطفاء حرائق الجمهوريين التي أشعلها جورج بوش الابن في العراق وأفغانستان، أطلقت إدارته -بواسطة وزير الخارجية وقتها جون كيري- مبادرة لإنهاء الاقتتال في اليمن في أغسطس من العام 2016، ولم يكن قد مضى على نشوب حرائقها الفاتكة غير سبعة عشر شهراً.
المبادرة التي عُرفت حينها باسمه (مبادرة جون كيري) وتضمّنت جملة بنود تتصل بوقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة موسّعة من أطراف النزاع، وتسليم العاصمة صنعاء، والأسلحة الثقيلة لطرف ثالث، يُتوافق حوله من جميع الفرقاء المحليين ورعاتهم الإقليميين.
اُطلقت هذه المبادرة في وقت كان التحالف السعودي - الإماراتي في أوّج قوته، ويراهن على الحل العسكري وفرض شروطه السياسية والأمنية ليس في اليمن، وإنما في محيطها الإقليمي؛ صعود إدارة الصقور الجمهوريين برئاسة دونالد ترامب، القادم من خارج السياسة، عزز هذا الشعور وحكم على المبادرة بالموت في مهدها، بسبب تبنّيه مواقف متشددة ضد الحوثيين ومموّلهم الرئيس (النظام الإيراني)، وشجّع على تشكيل جبهة واسعة من حلفائه الإقليميين الأثرياء ضد طهران، وأذرعها في المنطقة.
النظام الإيراني استطاع امتصاص هذا الموقف بكثير من الهدوء والخِبرة التاريخية، ليتمكّن بعدها من تحريك أدواته وأذرعه العسكرية والأمنية في المنطقة، بهدف خلط أوراق ملفات الحل في العراق وسوريا ولبنان، وأشهر في وجه خصومه الورقة اليمنية ككرت ابتزاز عالي القيمة، ورمى بكل ثقله الأمني واللوجستي للضرب داخل العُمق السعودي بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية، استطاع إيصالها إلى اليمن مع خبراء شديدي الخطورة بطرق متعدّدة، و رافق ذلك اللعب على الزمن وقتله، بالكيفية ذاتها التي تمرست عليها الدبلوماسية الإيرانية في مفاوضاتها الطويلة في ملفها النووي، وقضايا العراق وسوريا ولبنان الشائكة.
كانت، أيضاً، تمتص كل الضغوط العسكرية والدبلوماسية التي مارستها إدارة ترامب وحليفتها الأقرب (تل أبيب)، بما فيها عدم الرّد على العمليات الاستخباراتية الدّقيقة والضربات الجويّة المركّزة، التي ترتّب عليها تصفيات متعاقبة لرموز علمية وعسكرية إيرانية داخل العُمق الإيراني، أو عُمق تواجدها في سوريا والعراق، مكتفية بتشغيل ماكينتها الإعلامية الجارفة بأنها تحتفظ بحقها في الرّد في الزمن والمكان الذي ستختاره. وبدلاً عن ذلك كانت في كل مرّة تستخدم أذرعها العسكرية والمليشاوية في العراق وسوريا لتنفيذ عمليات هنا وهناك ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وإن ردها الخجول على عملية تصفية قاسم سليماني (العسكري الأقوى داخل بنية النظام) مع تباشير 2020 لم يكن غير توجيه ضربات صاروخية غير ذات أثر حقيقي على مواقع أمريكية في العراق، تم إفراغها قبل العمليات، وكان الهدف من الرّد الخجول امتصاص غضب الشارع الذي طالبها بإحراق المنطقة!!
ذهب ترامب بعد سنوات أربع من الخشونة السياسية والتشدد في السياسة الخارجية كتعبير جلي لصوت اليمين الشعبوي الذي عاد إلى الواجهة في أنحاء متفرّقة من أوروبا والعالم، في انتخابات العام 2016. ذهب ولم يَضْعَف الحوثيون، وضعفت السعودية وحلفاؤها ووكلاؤها المحليون، ذهب ولم يلِن راعي الحوثيين في طهران، ولا المناصرون الدوليون، الذين كانوا ولم يزالوا يرون في السعودية وأبو ظبي قوى غاشمة تستقوي بأموالها على شعب فقير. ذهب وجاء بعده مطفِئ حرائق جديد من الحزب الديمقراطي اسمه جو بايدن (نائب الرئيس أوباما)، بوعود كثيرة، منها: إعادة واشنطن إلى الاتفاق النووي، وإحياء بنوده التي أماتها سلفه ترامب وإدارته الشعبوية، والأهم إنهاء الحرب في اليمن، وعيَّن لهذا الغرض في 4 فبراير 2021 (تيموثي لانديركينغ) مبعوثاً خاصاً، هو دبلوماسي أمريكي، كان يعمل نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون إيران والعراق والشؤون الإقليمية متعددة الأطراف في مكتب 'الشرق الأدنى' في وزارة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما.
ومنذ تعيينه لم يهدأ، وأنجز خلال أربعة أشهر رحلات مكوكية ومضنية بين مسقط (حيث يتواجد وفد الحوثيين ومفاوضيهم) والرياض حيث تقيم الشرعية بقضها وقضيضها منذ ست سنوات، وواشنطن (حيث يطبخ القرار)، وقد استطاع -بالتشارك مع مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن البريطاني (مارتن غريفيث)- إحداث اختراق واضح في الجدار الصلب الذي يحتمي به الحوثيون ومن ورائهم طهران، بضغوط كبيرة مارستها واشنطن على الجميع.
بدأ هذ الاختراق منذ أشهر ثلاثة، مع تسريب أخبار عن محادثات سرّية بين السعودية وإيران في العراق، كان على رأسها بحث الملف اليمني للوصول إلى تسوية تفضي إلى إنهاء الاقتتال، حاول معها الجناح المتشدد في الحرس الثوري ومكتب المرشد التغطية عليها بتصعيد أعمال عسكرية متسارعة في العُمق السعودي. أظهرت هذه الأعمال السعودية أنها تستجدي حلاً من الطرف الممسك باللعبة، وأنها في موقف أضعف من أي وقت مضى، وسترضى بتسوية للخروج من المستنقع اليمني، حتى على حساب حلفائها في الشرعية، الذين صاروا -الأعوام الأخيرة- هلاماً رجراجاً، استفحل الفساد ببنيتهم، وتتناهب مواقفهم رغبات رُعاة الحرب ومموليهم، ويعملون وفقاً لما يُملى عليهم من الرياض وأبو ظبي والدوحة، وليس لهم من قرار وطني مستقل.
في أواخر شهر أبريل الماضي، زار وزير الخارجية الإيراني (محمد جواد ظريف) العاصمة العمانية مسقط، والتقي محمد عبدالسلام ناطق ورئيس وفد الحوثيين في المفاوضات، حيث أكد له - حسب صيغة الخبر الرسمي- موقف طهران المؤيد لوقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة المفاوضات لإنهاء الحرب المدمّرة في اليمن. وجاءت تصريحات ظريف هذه بعد ساعات على دعوة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الحوثيين إلى وقف الحرب والتفاوض، التي أعقبها بيومين في لقاء تليفزيوني مع قناة 'العربية' بقوله: "إن الحوثي بالأخير يمني ولديه نزعة عروبية".
جاء العُمانيون إلى صنعاء، مطلع الأسبوع الماضي (5 يونيو 2021)، يسبقهم هذا الجو الذي يبدو انفراجياً، بمعيّة ناطق الحوثيين محمد عبد السلام ووفده، بعد أيام قليلة من الزيارة الأخيرة ربّما لجريفيث بصفته مبعوثاً أممياً، وعقدوا سلسلة لقاءات مع رموز السلطة الحوثية، في اليوم ذاته الذي تواجد فيه وزير الخارجية أحمد عوض بن مبارك في مسقط، وتكهّنت الكثير من المصادر بأن لدى وفد الديوان السلطاني خطة متوافق عليها من الأطراف الدولية والإقليمية لإنهاء النزاع المسلّح في اليمن، وعلى الحوثيين القبول بها دونما تلكؤ أو تسويف؛ تقضي بنودها الرئيسة على وقف شامل لإطلاق النار، وعدم الاعتداء على مأرب، وفتح مطار صنعاء وميناء الحديدة، قبل الانخراط في عملية مفاوضات مباشرة بينهم وبين الحكومة الشرعية برعاية أممية وضمانات دولية وإقليمية لإنجاح خطة تسوية حول فترة انتقالية، لا يُستبعد فيها المجلس الانتقالي الجنوبي.
السؤال هنا: هل استوت الطبخة، وغدا اليمنيون على عتبة سلام حقيقية؟
أنا غير متفائل بالمرّة، لأن تجربة مفاوضات الكويت، في أبريل ومايو من العام 2016، كانت قاسية، فبعد أن أشاعوا التفاؤل، عاد المتفاوضون ليعظّموا مبدأ التقاتل، لأنهم لم يتجاوزوا حالة انعدام الثِّقة، ولأن مسيِّري المتحاربين وقتها لم يكونوا على اتفاق، لكن هذا الأمر ربّما قد تغيّر في حسابات الأطراف مجتمعة، وعليه لا يمنع من القول إن شرط نجاح المسعى العُماني (الذي ظل لسنوات عديدة صوت طهران المتواري) سيكون مرهوناً باتفاق سعودي - إيراني على وجه الخصوص، وسيُراكم على نتائج مباحثاتهما على الأرض العراقية التي تمت في شهر أبريل الماضي، وبتوقيت لقاء ظريف بعبد السلام ذاته، وأي خطوة تُخطى نحو السلام المستديم، في البلد الفقير والمتهتك، ينبغي أن تلتفت إلى قضايا إنسانية مُهملة ومغيَّبة.
وأتفق تماما مع الصديق عبدالرشيد الفقيه الذي لخّصها بمنشور قصير وبليغ حين قال:
"ستكتسب خطوة فتح مطار صنعاء الدولي أهمية وطنية وإنسانية حقيقية في حال تزامنت مع فتح منافذ مدينة تعز المغلقة، وبقية الطرقات البرية بين صنعاء ومأرب، وطرقات الحديدة وغيرها، ودون ذلك ستكون مجرد مكرمة سعودية - عُمانية لجزء من اليمنيين دون غيرهم، لا ترتبط بالوضع الإنساني لعموم اليمنيين".
وأضيف إلى ذلك "صرف مرتبات الموظفين، وإطلاق المعتقلين من السجون السريّة وغير السريّة، وكشف مصير المختفين والمغيبين قسراً في شمال البلاد وجنوبها. ولا تهمل موضوع مغادرة القوات الأجنبية وخبراء المليشيات الأراضي اليمنية".