مقالات

ورحل سلطان الأغنية الكبير

03/01/2025, 11:11:49

سلطان سعيد الصريمي فارس الأغنية، وأبو نشوان؛ "الأغنية" التي صدحت بها حناجر الجماهير لعقود طويلة ولا تزال، واحدٌ من أبناء الفلاحين، أحب البحر، وغنّى للثورة والأرض، وكل جميل في الحياة. 

بدأنا المشوار معًا، عملنا في فرع التجارة الخارجية بتعز، مطلع 1967، وسكنا سويًا في الضبوعة، ثم انتقلنا للعمل في الحديدة، وسكنا في مدينة التعاون الأهلي كجارين. 

فَكّرَ سلطان في إصدار صحيفة، ولم يتمكن إلا في إصدار ورقية. كان سلطان رئيس التحرير، وأصدرنا عددين؛ كتبتُ فيهما عن "نشوان بن سعيد الحميري". أخبرني سلطان أنه مازال يحتفظ بالعدد الأول. وكان سبعينات القرن الماضي بداية التفتح والازدهار وانتصار الثورة.

حققت ثورة الرابع عشر من أكتوبر الاستقلال للجنوب اليمني في 1967، وكسرت صنعاء حصار السبعين يومًا في 1968.

بدأ التأسيس الثاني للأحزاب السياسية، والميل لليسار. وأصدر محمد عبد الجبار مجلة «الكلمة» في الحديدة ديسمبر 1971، وقبلها الأستاذ عمر عبد الله الجاوي في إصدار الحكمة في 15 ديسمبر 1971، وتمَّ التحضير لتأسيس اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين.

وأصدرت وزارة الإعلام في صنعاء مجلة «اليمن الجديد» في العام 1972، ورأس تحريرها الشاعر الكبير عبد الودود سيف، وبدأت شجرة الثورة اليمنية (سبتمبر) تؤتي ثمارها. 

سلطان الصريمي، ومحمد عبد الباري الفتيح، ومحمد المساح، وأحمد مثنى، ومحمد مثنى كانوا، منذ البداية، إلى جانب محمد عبد الجبار منذ الأعداد الأولى من الكلمة. القصيدة الأولى للشاعر الغنائي الفذ سلطان سعيد الصريمي «واعمتي»؛ نشرت في الأعداد الأولى من «الكلمة».

في العام 1971 انعقد المؤتمر العام الأولى لاتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين في عدن، حضره إبراهيم صادق، وسلطان الصريمي، ومحمد عبد الجبار من الحديدة.

كان سلطان في قلب الكفاح السياسي في العمل لتأسيس الطليعة الشعبية، وفي توحيد فصائل اليسار الخمس: «الحزب الديمقراطي الثوري»، و«الطليعة الشعبية»، و«اتحاد الشعب الديمقراطي»، و«العمل»، و«المقاومين الثوريين»، وكان يمثل قاسمًا مشتركًا بين كل هذه الأطراف، وبعيدًا عن الخلافات، وكنا نتحرك ونعمل كفريق، وكان النشاط الثقافي والأدبي هو الأجهر.

التصق سلطان بالفنان عبد الباسط، والشاعر الكبير محمد عبد الباري الفتيح، وكان الحوار والنقاش غالبًا ما يدور حول الأدب والثقافة، وما تحفل به الحياة العامة. فسلطان شاعر شعب، وابن بار، غاص في قاع المجتمع، وامتلأ قلبه بحب الحياة والناس، قرأ معاناة البسطاء، وأحزان البؤساء، وتشرَّب المفردات الأكثر عامية شعبية والمتداولة في الأوساط الشعبية، وعبَّر عنها بمهارة وذكاء وحِسّ صادق وحانٍ.

تغمر الأغنية الشعبية كل ومختلف فئات وشرائح المجتمع؛ من ابن الإمام: محمد عبد الله شرف، والعارفين: القارة والقمندان، والقضاة الأجلاء: علي العنسي، وعبد الرحمن الآنسي، وابنه أحمد، وقبل الجميع القاضي الحكاك، والعلامة ابن فليتة، والمزاح؛ وصولاً إلى البار والحامد، والسيد شعيب، وامبريق من تهامة، وعلي باري، والأمير القمندان، وحداد الكاف، والمحضار، والحداد، وأبو بكر بن شهاب، ومطهر الإرياني، وعلي بن علي صبرة، ولطفي جعفر أمان، والفضول، وأحمد الجابري، ومحمود الحاج، والفتيح، وسعيد الشيباني، ومحمد سعد عبد الله، وعباس الديلمي.

في كل مدينة وكل قرية من القرى مبدعون عديدون، وشعراء أغنية. سلطان الأغنية الكبير (الصريمي) واحدٌ منهم؛ فهو وارث كنوز الأغنية التي يعود بها البعض إلى ما قبل الإسلام. فقد عرفت اليمن بعض الأدوات الموسيقية، وكان هناك مغنيات ومغنون في دولة اليمن القديمة.

سلطان الصريمي ابن بار ووارث راشد وأمين لهذا الإرث العظيم؛ وهو شاعر كبير، ومناضل حزبي عنيد، رأس اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين.

الدكتور سلطان الصريمي المثقف والأديب المتعدد دَرَّسَ في جامعة صنعاء لفترة قصيرة، وأسس مركز «نوارس»، وأصدر مجلة «دروب»، ودرس الأمثال الشعبية في اليمن، ورأس تحرير صحيفة «الثوري». أصدر سبعة دواوين. إحساسه الشعري كبير، وذائقته الشعبية رفيعة. ديوانه «أبجدية الربيع» ملحمة ثورة الربيع العربي في اليمن، وكان الدكتور سلطان عنوانًا كبيرًا من عناوينها، وكانت خيمته في ميدان الستين محجةً للزائرين من شباب الربيع، والقصيدة (الديوان) ملحمة الربيع.

الملحمة الثانية «أبجدية البحر والثورة» ملحمة بكل المعاني، والثورة معنى من معاني البحر الزاخر بالعطاء:

أنَّيت من باطلك يا قاتلي وقلت للناس: قاتلنا حريفْ! والحرافة هنا القدرة على تقمص القاتل لبوس الإنسان المفردة آتية من الاحتراف، ولكنه احتراف القتل، وليس أي حرفة. تختزن المفردة الصورة الباشعة للقاتل في صورة القديس، وترمز كثافة المعنى لضعف الوعي.

الهارب (المسافر) أدرك عمق المعنى المضمر.. إلا المسافر شبع من موتتي معرفة، وصاح مثلي: غلط من يكتوي مرتين، بسطاء الناس يعرفون حقيقة المعنى، ويستغربون من التورية. ينحاز إلى الإحساس الشعبي، ويُلقى باللائمة على الوعي.. "غلط من يكتوي مرتين" حقيقة وخبرة أدركها باكرًا أبو حيان التوحيدي: "تجريب المجرب خلل في العقل، ونقص في التجربة". 

باركت جرح الشموخ وتضحيات السفر؛ للسفر هنا معنى مختلف. فالمسافر الهارب من القبول بالواقع والاستسلام للسائد والقوة، هو مجترح الشموخ وصانع التضحيات. 

يبدع الشاعر الترميز بالفاتنة والوجنتين: الشمال، والجنوب، وبالأفخاذ رحم الثورة، والصدر للأداة الثورية (المقاومة): 

حفرت في الوجنتين وصيتي للصغار بين أفخاذ الفجعة تنبت الثورة، وفي الصدر الذي يدمى يكون النصر ترسم الملحمة مسار الثورة المتعرج، وحالة المد والجزر والانكسار والانتصار.. تاهت خيوط الفرح عندي وتاه الطريق، وشفت في تيهتي نزيفا يبكي نزيفا، لكن الشاعر، الذي يستخدم المجاز بأنواعه، والاستعارة، يعود إلى استشرف الآتي.. وطير ينقر بمنقاره سلى، وعاشقٍ ينتظر شمس المحبة تصل، تعيد له ديمته، وتجمع الكاحتين في ملحمة «البحر والثورة»، يميل الشاعر أكثر إلى بلاغة الفصحى والمطعمة بالعامية؛ شأن الحميني على غير عادته: «ديمته»، «الكاحتين»؛ وهو ما درج عليه رواد الحميني القدماء.

ملحمة «أبجدية البحر والثورة» لوحاتٌ ناطقة لمسار الثورة من أول حرف وحتى آخر كلمة. 

يا سيل صوتك ينغبش هاجسي، وعرف صنعاء مع صوتك يفوح لونك بذهني سبط لا ينتسي، يمشي معك حيثما تشتي يروح، تختلط بك دموع القرى والشجر، الحصى والجبل والتراب التراب الذي بين مائك جميل عسير، يتكحلك، والمكلا تخضب يديها بمائك فرحا، ترتعش للوصال العظيم! النبوءة في «أبجدية البحر والثورة»: إن الصوت (الكلمة) تحلّ محل صوت القذيفة الذي بشرت ثورة الربيع العربي السلمية بفشله، وانقضاء أجله.. المقطع الأخير: صوت السيل. هدير شباب الربيع: الشعب يريد. المفردات: ينغبش هاجسي، والطير الذي ينقر بمنقاره سلى- تعبير عميق عن طبيعة التغيير الآتي: تختلط دموع القرى والشجر، الحصى والجبل، المكلا عروس الفرح الآتي، وخضاب يديها ارتعاشة الوصال العظيم- مؤشر أنَّ الأغنية البيان رقم "1".

مقالات

اليمن.. الراتب كمعضلةٍ للاستقرار!

بينما تتباهى دولٌ كثيرةٌ في العالم بارتفاع مستوى الدخل السنوي لسكانها، كان ولا يزال مفهوم "الراتب" عند أغلب اليمنيين من سكان المدن، الذين لا أرض زراعية تجود عليهم بما يقتاتونه في معيشتهم، هو ذلك الأجر الزهيد الذي يتقاضاه اليمني

مقالات

أبو الروتي (16)

"بعد تصاعد العمليات الفدائية ضد الجنود البريطانيين، لجأت السلطات إلى إعلان حظر التجول من وقت المغرب إلى صباح اليوم التالي"..

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.