مقالات
ولدت في يوم شؤم وفي ساعة نحس - سيرة ذاتية١٠
في أول أسبوع من شهر رمضان، كانت الصيادة تغريد تذهب إلى الصيد كعادتها، وكانت تنام باكرًا ولا تسمر معنا. وكان ذلك يضايقني ويزعجني، وكنت أشعر بأن ليالي رمضان من دونها ثقيلة وكئيبة وموحشة.
وبعد أسبوع تجرأت وطلبت منها أن تتوقف عن الذهاب إلى البحر. وعندما رفضت، ذكّرتها بأنها في العيد الصغير ستكون خطيبتي، وفي العيد الكبير ستكون زوجتي، وقلت لها إنه يجب عليها أن تحترم رغبتي.
وضحكت تغريد من هبالتي، وقالت إنه ليس من حقي أن أفرض سلطتي عليها قبل أن نتزوج.
وبعد أن شكوتها إلى أمها، وقفت الأم إلى جانبي، وقالت لها إنه رمضان ولا داعي أن تذهب إلى الصيد وتتعب نفسها طالما كل شيء موجود ومتوفر.
وبضغط من أمها توقفت عن الذهاب، ومن بعد توقفها وحضورها للسمر معنا، احلوّت سمراتنا، وصارت كل ليلة من ليالي رمضان كأنها ليلة القدر.
وفي يوم العيد، وهو يوم الخطوبة، عزمت مسؤولي الحزبي أحمد القدسي على غداء و"قات"؛ باعتباره ولي أمري. ويومها خطب لي تغريد من أمها وتمّت الخطوبة.
وفي ثاني أيام العيد أخذتها إلى السينما، وبعد عودتنا، انفتحت شهيتي لتقبيلها لكنها تمنعت وتحصنت بالتقاليد، ورفضت السماح لي بتقبيلها، وقالت لي إن التقبيل لا يكون إلا بعد الزواج وليس بعد الخطوبة.
تفاجأت برفضها، وظننت أنها تكذب عليّ، وزعلت منها وخاصمتها.
وبعد أن أبصرتني زعلانًا، قالت إذا كنت أرغب في تقبيلها فعليّ أن أقبّلها في البحر وليس في العشّة. قالت ذلك وكأنها على يقين بأنني لن أجرؤ على الذهاب ثانية إلى البحر بعد الذي حدث.
ولشدة رغبتي في أن أنفرد بها وأقبلها بحريّة، ذهبت أسأل عن دواء لدوار البحر، وبعد أن مررت على عدة صيدليات، دخلت صيدلية في "باب مُشرف"، وكان صاحبها رجلًا عجوزًا، وبمجرد أن سألته أعطاني حبوبًا وأوصاني بتناول حبة قبل دخولي البحر بساعة.
وفي فجر اليوم الذي ذهبت فيه إلى البحر، تناولت حبة الدواء واصطبحت صبوحًا خفيفًا (فطير مع لبن رائب). وزادت تغريد وسقتني مشروبًا لا أدري ما هو، وقالت إنه يقي من الغثيان.
وللمرة الثانية دخلت البحر معها، وكنت يومها في أجمل حالاتي، وعندما اختفى الشاطئ وأصبحنا وسط البحر، قبلتها قبلة كانت أطعم وألذ وأطول قبلة في حياتي.
وبعدها دوّخت وشعرت بالدوار والغثيان، لكن هذه المرة لم أذهب لأتقيأ في الجهة التي تهب منها الريح، وإنما تقيأت في الجهة المعاكسة.
وبعد أن أفرغت كل ما في معدتي، أحسست بالراحة، ثم راحت تغريد تصب الماء فوق رأسي، وكان ذلك الماء قد أنعشني وأعادني إلى الوضع الذي كنت عليه قبل الدوار والغثيان.
وعند وصولنا منطقة الصيد، كانت أول خطوة قامت بها تغريد هي فحص شبكتها للتأكد من سلامتها وعدم وجود تمزقات وتشابكات. ثم طلبت مني أن أساعدها في رمي الشبكة.
وبعد أن ألقيناها في البحر، تركناها لتقوم بعملها وعدنا نحن إلى عملنا، ورحنا نقبّل بعضنا بشراهة تفوق شراهة أسماك القرش وهي تلتهم سمكة "سانتياغو" العملاقة في رواية "العجوز والبحر".
لكنها بعد أن أشبعنا حاجتنا ووصلنا إلى حالة من الارتواء، شعرت بالذنب وراحت تلومني وتقول إنني أغويتها وزدت عليها، وأن الله غاضب منها؛ كونها سمحت لي بتقبيلها قبل أن تصبح زوجتي.
ولشدة شعورها بالذنب، قفزت من فوق القارب بملابسها لتغسل ذنبها وتستعيد طهارتها، لكأنني بقبلاتي الطاهرة قد نجّستها.
وبعد أن تطهرت وطلعت من البحر، رحنا نتعاون على سحب الشبكة، وتفاجأنا -ونحن نسحبها- بثقلها، وبالكاد تمكنا من رفعها إلى القارب. لكن الصيادة تغريد، وقد رأت المحصول الوفير، استغربت وتعجبت، ورددت الكلام نفسه الذي تردده أمها، وهو أني شخص مقدَّس ومبارك، وأن ذلك الصيد الوفير حدث ببركتي. وقالت إن تلك أول مرة تخرج شبكتها من البحر وهي ممتلئة بالأسماك.
وقبل أن نتجهز للعودة، راحت الصيادة تغريد تعيد الأسماك الصغيرة وتلك الكبيرة التي وقعت في الشبكة.
وحين سألتها عن سبب إعادة الأسماك الكبيرة إلى البحر، قالت إنها أسماك غير مرغوب فيها والأفضل لها أن تبقى في البحر وتواصل حياتها.
وفي طريق عودتنا، أصابتني ضربة شمس، ومن جديد شعرت بالدوار والغثيان والرغبة في القيء على الرغم من أن معدتي كانت فارغة.
وبعد وصولي العُشة، ارتميت فوق سريري، وكانت حرارتي مرتفعة، ومن شدة الحُمى غبت عن الوعي وراحت أم تغريد تعالجني بالكمادات الباردة، ولا أدري كم مرّ من الوقت وأنا غائب عن الوعي. لكن حين أفقت ورأيت تغريد وأمها واقفتين أمامي مثل ملاكين، عرفت أنني نجوت.
وفي اليوم التالي، أو الذي بعده، حضر أحد الرفاق إلى قرية الصيادين وسأل عني، وبعد أن دلَّه الأطفال على العُشة، أبلغني بخبر اعتقال الرفيق أحمد القدسي، وقال إنهم داهموا بيته وصادروا مكتبته.
وكان خبر اعتقاله قد أحزنني وأحزن تغريد وأمها. أيامها كان مشروع طريق الحديدة - تعز أعظم مشروع، وكان الرفيق أحمد القدسي يعمل مهندسًا فيه، وقيل عن سبب اعتقاله إنه كان ينشط في صفوف العمال ويحرضهم ضد إدارة المشروع، ويدعوهم إلى الإضراب عن العمل من أجل تحقيق مطالبهم ورفع أجورهم.
وبعد مرور شهر على اعتقاله، كتب لي المسؤول عني في العمل مذكرة إلى رئيس الأركان يطلب فيها ترقيتي من رتبة عسكري إلى رتبة رقيب، وطلب مني أن أذهب بنفسي إلى صنعاء لأعامل على الرُّتبة، لكن أجّلت ذهابي لما بعد زواجي.
وفي مساء ذات خميس، وقبل العيد الكبير ببضعة أيام، وأثناء سمرنا مع خطيبتي تغريد وأمها في عُشتي، نهضت تغريد من مجلسها وخرجت تجري إلى عُشتها، وكان أن توجست أمها خوفًا وخرجت بعدها، وما لبثت الأم أن عادت وهي قلقة على بنتها، وراحت تتوسل إليّ أن أفتح الكتاب وأرى سبب القيء والإسهال الذين داهماها فجأة.
وكانت الأم المسكينة تعتقد أنني لو فتحت كتابًا من تلك الكتب الموجودة في العُشة فسوف أعرف ما الداء الذي أصابها وما الدواء، لكني بدلًا من فتح الكتاب فتحت الباب وخرجت أسعفها إلى المستشفى الوحيد في الحديدة.
وعند وصولنا، كانت طوارئ المستشفى تغص بالمرضى، وقال لي الطبيب الذي فحصها إنها "الكوليرا"، لكنه لم يتخذ أي خطوة لإنقاذها أو لتعويض السوائل التي فقدتها بسبب القيء والإسهال الشديدين.
وبعد أن قال لي الطبيب إنها "الكوليرا"، راحت تغريد تنظر إليَّ بعينين غائرتين ومتوسلتين، وتنتظر مني أن أقول لها ما قاله الطبيب. وكان من الصعب أن أقول لها، لكن الدموع، التي انبجست من عيني وسالت على خدودي، قالت لها ما لم أجرؤ على قوله.
وبعد أن كانت تمسك بيدي وتقبض عليها بكل ما تبقى لديها من قوة ورغبة في الحياة، شعرت بقبضتها ترتخي، وبكفها تسقط من كفي مثل ثمرة تسقط من غصن شجرة.
ولشدة فزعي حين رأيت كفي فارغة، رحت أناديها وأهزها وأتوسل إليها أن ترد وتسمع صوتي، لكنها كانت قد انطفأت مثل شمعة.
ولشدة ما شعرت به لحظتها من الوحدة والوحشة والرُّعب، تذكرت كلام أمي وقولها إنني ولدت في يوم شؤم وفي ساعة نحس.