مقالات
وماذا عن شعب مقهور بلا سند؟!
قبل فترة قصيرة، كتبت مادة عن "وهم الاستقرار الحوثي"، تتبّعت فيها كيف أن استقرار سعر صرف العملة عند حدود ستمائة ريال للدولار الواحد في المناطق، التي تسيطر عيها الجماعة الحوثية، مقابل ألف ومائتي ريال في مناطق "الشرعية" هو وهمٌ كبير وزائف؛ وأن الأسعار في مناطق الأولى أعلى بكثير من أسعار السلع والخدمات في المناطق الأخرى، مقوَّمة بأسعار الصرف المتداولة والمعلن عنها، واستنتجت من ذلك أن كثرة الجبايات وتنوّعها، التي تمارسها على التجار والوسطاء، جعلت التّجار والوسطاء يقوِّمون أسعار سلعهم بمبالغ افتراضية تقترب من أسعار الصرف في المناطق الأخرى. مثلاً يحدد التجار السعر بتسعمائة ريال عوضاً عن ستمائة ريال، والريال السعودي بمائتين وخمسين ريالا، بدلاً عن مائة وستين ريالا، والفارق هذا هو ما سيدفعونه "للجُباة" بمسمّياتهم المختلفة، ويعيدون تحميل هذا الفارق المواطن الغلبان، الذي لا يجد من يحميه بالأصل.
"أحد الأصدقاء، وهو مالك عقار (بيت بثلاث شقق)، بالحارة ذاتها، التي كنت أسكن فيها قبل أكثر من عامين، حدّثني وهو بحالة انفعال شديد، قائلاً لي بأنه عائد من مكتب الضرائب الذي فرض عليه مبلغاً كبيراً، يتجاوز تقديرات الأعوام الماضية بمرات عديدة، وأنه حينما أخبرهم بأن متحصلات إيجاراته من الساكنين في شقتين لا تتناسب مع المبلغ المفروض عليه.. أتدرون بماذا رد عليه المسؤول؟ قال له: 'ارفع الإيجار عليهم لتتمكن من دفع الضرائب، لأن شققك تستاهل ذلك".. وصل الأمر بهذا المسؤول إلى تحريض المالك على رفع الإيجار على موظفين بائسين، انقطعت مرتّباتهم من سنوات طويلة.
وأضاف أن مالك عقار آخر دخل بمشادّة شديدة مع المسؤول ذاته، فهدده بعنف، وقال له إنه سيرسل أحد الموظفين لعدّ أحجار البيت الذي يمتلكه لفرض ضريبة حتى على عدد الأحجار!!
أزمة وقود خانقة تشهدها المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، وتمتد طوابير السيارات والمركبات أمام محطات التزود إلى أكثر من أربعة كيلو مترات في أفضل الحالات.. هذه الأزمة المفتعلة بررت للسوق السوداء استئناف نشاطها في بيع الوقود (بترول وغاز).
يدير هذه السوق، في العادة، نافذون في الجماعة، ويصل اللتر الواحد فيها إلى ألفي ريال، أي أربعة اضعاف كآخر سعر أعلنت عنه الجماعة مطلع فبراير الماضي، الذي قدَّر السعر بخمسمائة ريال للتر الوحد، بعد رفعه من أربعمائة ريال مع اشتداد الأزمة منتصف يناير الماضي.
يشكو العديد من المواطنين من أن بعض وقود السوق السوداء يباع مغشوشاً (يُخلط بنسب من الماء)، فيتسبب في أعطاب خطيرة للسيارات والمركبات.. سمعت أحدهم أنهم في حي شعبي في صنعاء أمسكوا شخصا معروفا يبيع وقوداً مخلوطاً بالماء، وحينما أوصلوه إلى قسم الشرطة لم ينكر فعلته، لكنه تباهى بأمانته بكونه يخلط بضاعته بماء صحة (ماء معدني)، وغيره يخلطون الوقود بماء الويتات (ماء الصهاريج)؛ وعلى ذكر الصهاريج فقد بلغ سعر صهريج الماء المتوسط (8000 لتر) خمسة عشر ألف ريال، بعد أن كان سعره قبل شهر واحد ثمانية الآف ريال، لهذا السبب يمكن رؤية عشرات العائلات (نساء وأطفالا) يتحلّقون حول أسبلة الماء في الحواري الخلفية منذ الصباح الباكر، ليحظوا بقليل من الماء، يتصدّق به بعض الميسورين أو وكلاء بعض المنظمات ورجال خير من المغتربين اليمنيين في دول الجوار.
تبصر هذه العائلات بأواعيهم البلاستيكية الصفراء (علب الزيوت المصنّعة) ينتظرون لأوقات طويلة، حتى يتمكنوا من الحصول على خمسين لترا من الماء.
ذهبت إلى طاحون الحبوب القريب من المنزل، الذي أتعامل معه منذ أكثر من عامين، لشراء حاجتي من القمح المطحون، فوجدت أن ثمنه قد زاد بما نسبته 20% من سعره في الشهر الماضي، وحين أبديت استغرابي، قال لي: "الحرب في روسيا والغلاء عندنا!!".
كثّفت وسائل إعلام حوثية -خلال الأسبوع الماضي- أخبار التنديد بقرار "مرتزقة العدوان)" برفع أسعار أُسطوانات الغاز في المناطق التي يسيطرون عليها، وهذا يعني بشكل واضح أن الجماعة سترفع أسعار الغاز المستجلب من مأرب بسعر ألفي ريال بالعملة الجديدة (ألف ريال بالعملة المتداولة في مناطقها)، ويتوقّع أن ترفعه إلى سبعة آلاف ريال (أي أربعة عشر ألف ريال بصرف العملة المتداولة في مأرب)، بعد أن كانت تبيع الأسطوانة بخمسة آلاف ريال قبل إعلان هذه الزيادة.
يكفي أن يسمع التّجار والسماسرة اليمنيون بأي طارئ في العالم، أو المحيط، أو حتى الداخل، ليكون ذلك مبرراً كافياً لرفع أسعار المواد الغذائية والسلع الضرورية المرتبطة بمعيشة المواطنين، دون أن تحرّك الجهات ذات العلاقة ساكناً، لأن ثمن السكوت قد دفع سلفاً للقائمين عليها، وهذا الأمر ليس وليد هذه الفترة وإنما فلسفة قديمة منذ أيام نظام صالح، المؤسس الأكبر للفساد، ليأتي ورثته وقتلته ليضيفوا إلى فلسفته ما هو مبتكر لنهب جيوب المواطنين، بتحويل الخدمات المتوجّب أن تقوم بها الدولة لمواطنيها إلى سلع عالية الثمن، تتاجر بها عبر شبكة معقّدة من عناصر الجماعة والموالين الفاسدين.
وهذا الأمر يتطابق بالممارسات ذاتها مع نافذي وفاسدي الشرعية والمجلس الانتقالي في المحافظات الجنوبية، وكذا جماعات الحُكم في المناطق الخارجة عن سيطرة الحوثيين في مأرب وتعز، حيث ينفرد حزب الإصلاح بإدارتها بأدوات فاسدة وجشعة.