مقالات
'يوتوبيا' الفكرة والبعرة
في زمنٍ ما، في يمنٍ ما، كان ثمة بحر في صنعاء. ليس نهراً، ولا جدول ماء. إنه بحر حقيقي بشاطئ لا يُحَدّ. وفي أطراف هذا الشاطئ اللازورديّ نبتتْ سيقان نخيل، وارتقت وتعملقت حتى صار الرابض في ذروتها يرى على مرمى البصر أكواخ الخصّ في ساحل الخوخة على نصل البحر الأحمر.
في الزمن نفسه، وفي اليمن ذاته، كان تسعة من المزارعين الأشدّاء يستصلحون أرضاً بوراً في الحسوة بأطراف عدن، المدينة المُحاذية لساحل الخليج الذي استعار اسمها. هناك، حيث راحوا يشقُّون رحم الأرض، ثم يضعون في عنقه بذوراً لم يعرفها أحد من قبل. ومع توالي الأيام زرعوا صنوفاً من الفاكهة وأنواعاً من الحبوب وبعض شُجيرات الورد البلدي.
وعلى نواصي المراكب الخشبية الصغيرة، التي كانت تمخر عباب البحر في المدينتين حينها، كانت مجاميع الصيادين المصبوغة أجسادهم بسُمرة الطَمْي وخمرة الكَدَح يُراوِدون الموج عن صَدفاته، وأسرار الليل في جنباته، مُردّدين أغنيات ذات سُلّم موسيقي تطرب له الأسماك، التي راحت تتصاعد الى الشِّبَاك، بألوان وأحجام وأسماء لا يعرفها ألاَّ أولئك الصيادون.
وفي مدرسة الأيديولوجيا، تحوّلت أشجار النخيل والباباي والحبوب والورود والأكواخ والأسماك والشباك والأصداف والأغاني إلى حالة جلوس على مقاعد الدروس، مُمسكةً بكتابٍ لا غلاف له، ومُنصتةً إلى محاضرة في علم الاجتماع السياسي، ترجمَها بروفيسور كئيب الوجدان عن الروسية نقلاً عن الألمانية نقلاً عن الفرنسية، ولم يكن كاتبها معروفاً لأحد، ولا مُدوّناً في 'الانسيكلوبيديا'.
أما في صفّ تعليمي لمحو الأُميّة، يربض على تلَّةٍ صغيرة في أطراف الربع الخالي بين زَمَخ ومَنْوَخ، تخرَّج بعض المزارعين والصيادين السابقين، العسكر اللاحقين .
ثمة امرأة واحدة وحيدة كانت بين هؤلاء جميعاً. كانت تتعلّم معهم نهاراً، وتتدرّب على الخياطة في الليل. كانت الوحيدة بين هؤلاء جميعاً التي تخرَّجت بشهادتين: التحرُّر من الأُميّة المتوارثة .. والتحرُّر من الفقر الإلزامي.
نحن لم نكتب التاريخ يوماً، ولا رسمنا الجغرافيا.
إن أقصى ما فعلناه كان صراخاً واستنكارا، أما أقصى ما قلناه فكان شعاراً يستنسخ شعارا.
وفي حومة الفعل الأهوج والقول الأجوف، كنا نتداول عُملة الاجترار اليابس بحماسةٍ منقطعة النظير، في الاقتصاد والسياسة، وفي الفلسفة والاجتماع، وفي الفن والعقيدة.
كنا نشعر بالبرد فنُشعل الحرائق في الغابة، وإذا شعرنا بالحرّ نروح ننفخ في صدورنا. وفي الحالين: لا نتدفّأ، ولا نستبرد، بل نمارس الخديعة الرمادية في حق أجيال قادمة كثيرة، وليس في حقنا فقط.
وذات مساء نَدِيّ، جاءت إلينا عجوز طيبة تحمل على كاهلها ثمانين حقلاً ومئات الحالات من الانكسار الرطب، وقالت لنا هامسةً: لا تهتموا بهذا الوحل العالق في أحذيتكم. انتبهوا لذلك الدبق الملتصق بأرواحكم!
لحظتها، انتبهنا إلى أن البحر راح يطوي سُجّادته الزرقاء، ويركنها بلا مبالاة على عمود خشبي مكسور من بقايا أطلال كانت لمؤسسة فارهة المقام وجاذرة الأثر، لكنها قايضت الفكرة بالبعرة.