مقالات
26 سبتمبر.. اليقين الوطني الوحيد
لعلّ أكثر ما يبعث الطمأنينة في الحياة مهما كانت الأهوال محدقة بالإنسان، هو أن أثمن ما لدى الإنسان كفرد أو الشعوب كمجموع، هي أمور يستحيل مصادرتها، يصعب استلابها، إنها عنصر غير محسوس ولهذا هي أمور مصونة من الضياع، ما لم يقرر فرد بذاته أو شعب بمجموعه التفريط بذلك العصنر المحروس بطبيعته. ما هو هذا العنصر أو ما الذي أتحدث عنه بصفته مكسبًا وقوة يصعب مصادرتها..؟ ما أعنيه، هي القوة الروحية لدى الفرد أو الذاكرة المعنوية لدى شعب ما. وكمثال أكثر وضوحًا: أعني ثورة 26 سبتمبر، تاريخ ميلاد "الجمهورية اليمنية". "المنجز الأعظم لدى اليمنيين منذ قيام الثورة الفرنسية"بحسب تعبير أحدهم.
نعم، لقد تمكّن خصوم سبتمبر من تقويض جمهورية الشعب؛ لكن مهما نجحوا في هدفهم هذا على المستوى الواقعي_أغلب الظن المؤقت_ وحتى لو افترضناً لجانب نجاحهم السابق، أن الحوثي تمكن من إبادة ملايين اليمنيين الجمهوريين، إبادة مادية شاملة، ولم يتبق سوى أسرته وسلالته المحدودة، لما تمكّن بذلك أن ينهي ثورة 26 سبتمبر. بشكل وجودي يقيني وقاطع. أعني أن يعيد الوضع تمامًا لما قبل حدث الثورة المزلزل. لا ريب أن ما حدث، ليس مجرد ثورة محدودة، بل تحول تاريخي جذري. فقط لمجرد حلول فكرة الجمهورية وبعيدا عن الحديث عن تفاصيلها اللاحقة. يمكن القول: لقد تمكن الآباء الأوائل من تأسيس الذاكرة المعنوية للدولة اليمنية. تثبيت فكرة الجمهورية، ذلك المبدأ التأسيسي الخالد لهذا الشعب. هو الإعلان الأول لإدخال فكرة الدولة بمعناها الحديث، حيث لم يكن هناك أي وجود للدولة بماهيتها المتعارف عليها في بقية دول العالم.
خسر اليمنيون دولتهم، نعم. صودرت كل المكاسب الوطنية وبلغت الوقاحة الإمامية حدّ فرض تصورها الطائفي الخاص كمنهج للأجيال. تقريبًا خسرنا كل شيء. فقط هناك قيمة مركزية واحدة، تكاد تكون الشفرة السرية والفعالة لأي انبعاث مضمون. هي ثورة سبتمبر والمبدأ الجمهوري. الثابت اليمني الوحيد، ومصدر الإجماع الوطني الأول والأخير. هذا هو ما لم يتمكن الإماميون من استلابه بعد.
انظر موقف السلالة الحوثية تجاه ثورة 26 سبتمبر. إنّه لأمر طريف ويكشف حيرة ممتزجة بالضغينة. إنّهم يكفرون بها بشكل قاطع وذلك أمر مفهوم؛ لكنهم يشعرون بالعجز إزاء هيمنتها الوجودية، مدى تغلغلها في الذهنية العامة، اكتسابها صفة" المقدس الوطني" لدرجة يصعب شطبها كليًّا.
من الطريف أيضًا، أنّ السلالة الإمامية وقد سطت على دولة سبتمبر، بشكل مادي وواقعي، إلا أن مجرد سماع الإماميون لصوت النشيد الوطني يرتفع من ساحات المدارس، هو أمر مزعج للذهنية الطائفية، تلك التي لا ترغب بالحكم فقط، بل وتتمنى لو تعيد صياغة الوجدان العام، بحيث تغدو خرافاتها المذهبية، بمثابة التصور الوجودي النهائي لليمنيين. أمام هذه الرغبة البدائية، تظل سبتمبر حاضرة برمزياتها، وقد غدت ظلالًا يحرس أمة من البشر حتى حين يتيهون طويلًا، لا تكف سبتمبر عن إيناس وحشتهم.
من الواضح أنّ الجمهورية كهوية جامعة للنظام والشعب تظل قيمة متجاوزة ولا يمكن الغاءها. حتى من قبل الأطراف التي لا تؤمن بها؛ أي أن الجمهورية مبدئياً، تظل ثابتاً قيمياً عصي على الشطب الكلي، مهما تعرضت الدولة لتجريف داخلي. إلا أن "فكرة الجمهورية" تبقى حائط الصدّ الذي يعجز الإماميون عن تصعيد مبدأ يتفوق عليه أو يزحيه قليلًا.
حين نجح ثوار سبتمبر من إزاحة النظام الإمامي، لم يظفروا بذلك، لكونهم أكثر قوة وتنظيمًا؛ بل لأن مبدأ الخصم في الحكم أو النظرية السياسية الإمامية (التقليدية) ، كانت في مرتبة أدنى من مبدأ القوة الصاعدة، ثوار سبتمبر وهم يحملون تصورًا سياسيا حديثا للحكم، متصل بشكل حي، بكل القيم المدنية الحديثة. مرة ثانية: فكرة الجمهورية وما يتناسل عنها من حقوق وحريات أكثر تناسبًا مع تطلعات الإنسان الحديث. تفوقهم المعنوي كان حجر الزاوية في ترجيح كفتهم.
إذًا، يمكن القول: "إن مبدأ الجمهورية يوفر للحركة الوطنية أرضية صلبة للكفاح ضد كل المشاريع الصغيرة وهي الفكرة الوحيدة التي تتضمن مشروعية نضالية متفوقة أخلاقيا على خصومها. كما تمنح القوى المدنية التحرّرية والمشتّتة في البلاد اليوم، تمنحهم أرضية مشتركة لاستعادة زمام المبادرة وتوحيد صفوفهم في مواجهة النقيض التأريخي للجمهورية متمثلا في المشروع الإمامي."
الجمهورية: هي القيمة الوطنية الوحيدة القادرة على تذويب كل الهويات الصغيرة بما تحمله من قوة نظرية، خصائص قيمية عامة وجامعة وبمدى رسوخها في الذهن الجمعي للأمة اليمنية بتيارها الواسع وغالبيتها العظمى.
أخيرًا: حين أعلن ثوار سبتمبر قيام الجمهورية اليمنية، لم يكن يعني ذلك بالطبع، أن الجمهورية ولدت مكتملة، هم فقط أنجزوا الأرضية السياسية الملائمة للدولة وحتى لطبيعة الشعب وسماته العامة. ما يعني أنّ المهمة الوطنية والثقافية المفتوحة والمستمرة منذ ميلاد الجمهورية؛ تقتضي اشتغالًا دائمًا لمواصلة تأثيث النظام السياسي للشعب. ومراكمة النشاط الثقافي كسياج للفكرة الجامعة. وهذا ربما ما قصّرت فيه النخب الجمهورية، وما عليها استدراكه الآن. بالمجمل تبقى التجربة الجمهورية، هي المرجعية الوحيدة الصالحة للتمسك بها والبناء عليها. مواصلة تطوريها باستمرار، باعتبارها الدرع الوحيد والموثوق لاسترداد الدولة اليمنية المستباحة والمختطفة.
الخلاصة:
مهما كانت الخسارات مريرة في حياة أي أمة، إلا أن عافيتها تظل ممكنة، طالما لم تفقد الشعوب ذاكرتها التأسيسية. في الحالة اليمنية، بلغت الحالة السياسية واقعية درجة من التيه والضياع حد فقدان اليقين بأي خلاص ممكن. غير أن الناس وقد كفروا بكل شعارات المصير، لا يزالون يستشعرون إجلالًا خاصًا تجاه 26 سبتمبر والمبدأ الجمهوري الناظم لدولتهم. هذا التماسك الداخلي، هو المؤشر على امتلاك الجماهير لبوصلة ضابطة، حتى وقد تاهت النخب وعجزت عن تكوين وعي جمعي موحد. سبتمبر ودونما جهد من أحد. هكذا لمجرد اقتراب ذكراها، تمارس الفكرة الجمهورية أثرها الفعال ويحتشد الناس من كل الجهات؛ كي يؤدون طقس الولاء لها. ولئن كانوا محرومين من الاحتفاء بها في قلب العواصم، فلن يعدموا المكان. سيفعلون ذلك في الصحراء، أو ستراهم مصطفين في المنصات الإفتراضية، يوحدهم حلم الجمهورية. ذلك المكسب الذي لا يمكن السطو عليه ولو لم يتبق منه سوى فكرة في الخيال. فالمهم سلامة المبدأ، حراسة المثال. ذلك أن كل واقع في حياة البشر، كان مثالًا قبليّا في الأذهان. كما هي جمهورية اليمنيين. ذلك المبدأ الذي يحتار اللصوص بأي حيلة يمكنهم طمسه؛ لكنهم سيظلون عاجزين للأبد.