مقالات
أبو الروتي (9)
كان من حسن حظ أخي عبد الحليم أنه سافر من القرية إلى عدن مع جدي، ونزل في بيت جدي، ودرس على حساب جدي، وتفرّغ كليةً للدراسة.
وكان من سوء حظي أنني سافرت من القرية إلى عدن وحدي، ونزلت بالمصادفة في بيت الحاج، وكان المطلوب مني -أنا الموزَّعُ بين البيت والفرن- أن ألبِّي ما يطلبونه مني في البيت، وما يُطلبُ مني في الفرن؛ وبدلا من أن اتفرّغ للدراسة تفرّغتُ لكل شيء ما عدا الدراسة.
كنت كل صباح، بعد صلاة الفجر، أحمل سلّتي وأمضي مع منصور -عامل الفرن- لجمع القوارير.
كان منصور شاباً أسمرَ لهُ وجهٌ حلوٌ مكسو بالحزن وحب الشباب، وكان في غاية الطيبة وفي منتهى النبل.
أتذكّر، في صباح اليوم الذي وقف فيه عمال الفرن يشهدون ضدي بتحريضٍ من الكَرّانِي، رفض منصور أن يصطفّ معهم ويشهد ضدي. وكان موقفه هذا قد ترك أثراً طيباً في نفسي.
وذات يومٍ. ونحنُ في الساحة، وقد كرع ببقايا القوارير في بطنه، واعتدل مزاجه، وتبخّر حزنه؛ اعترفتُ له بدخولي السينما، وكان أول شخص اعترفُ له.
ولشدة رغبتي في تكرار التجربة، سالته إن كان يعرف "سينما" تفتح في النهار؟!!
فقال إن السينمات والبارات والنساء، وكل الأشياء الحلوة، لا تفتح إلا في الليل.
كان قد اشتغل عند نزوله من القرية خدّاماً في البيوت، وكان يعرف الكثير عن عالم النساء، وعن جنتهن، وأسرارهن. وعندما رحتُ أتبجّح أمامه ذات يوم، وأقول له إن الرجال هم من يدخلون "السينما".
قال إن الرجل هو الذي يدخل على المرأة، وليس الذي يدخل "السينما".
وقال لي إني مازلت طفلا ولم أبلغ بعد.
قلت له -وقد استفزني كلامه-:
"قدنا بالغ -يا منصور- ما ناش جاهل".
ورحتُ أحدثه عن الفتاة التي أحببتها بالقرية، وعن "شمس الوادي"، وعن قلبي الذي يخفق بقوة الحب.
ويومها راح منصور يحدثني عن جنة أخرى غير جنة "السينما"، وهي جنة النساء.
كان بعد مجيئه إلى عدن قد اشتغل خدّاماً في البيوت، وكان ينتقل من بيت إلى بيت، ويعيش سعيدا في جنة النساء.
وقال إنه فيما بعد، وقد طردوه من الجنة، اشتغل حمالا في الدكَّة، وانفتحت له جنة أخرى هي جنة "السينما"، لكنه بعد اشتغاله في فرن الحاج لم يعد يذهب إلى جنة "السينما"، وسألته: هل السبب في عدم ذهابه هو خوفه من الكَرّاني ومن الحاج؟!!".
وكان جوابه هو أنه لا يخاف من أحد، ولكنه في المساء يكون مشغولا، ولا يجد الوقت للذهاب. لكنه قال إنه -بعد اشتغاله في فرن الحاج- انفتحت له جنة ثالثة، ولم يقل لي ما هي تلك الجنة الثالثة، التي انفتحت له، لكنني أكثر من مرة، ونحن في طريق عودتنا من ساحة القوارير، كان ينسى نفسه، ويقول لي، وهو في قمة نشوته، والسلة فوق رأسه:
"أنا الآن في الجنة".
وكنت أتساءل عن تلك الجنة التي هو فيها، وأقول بيني ونفسي، والسلة مثل صخرةٍ فوق رأسي:
"أنا تعباااااان"، وهو بدل ما يقول إنه تعبان مثلي يقول إنه بالجنة.
كنا كل صباح نحمل سلتينا ونذهب لجمع القوارير، وعند وصولنا الساحة كنا نفترق، ويذهب كل واحد منا في اتجاه.
وفيما كان هو يكرع بقايا القوارير في بطنه، ثم يضعها في سلته، كنت أنا أكرع البقايا في الأرض قبل أن أضعها في سلتي.
وذات مرة، لاحظ قارورة بيدي، فيها أكثر من رُبع فصاح يقول لي:
"خليها لا تكرع بها، خليها لا تكرع بها".
لكني كنت قد كرعت بها في الأرض، ويومها زعل مني، وقال لي، وهو زعلان:
"ثاني مرة، عندما تلاقي قارورة وباقي فيها لا تكرع بها".
ووعدته بأني لن أكرع بأي قارورة أجد فيها بقايا. وكنت بيني ونفسي استغرب، وأتعجب من عامل الفرن منصور، وأقول:
" ما الذي يجعله يكرع في بطنه بقايا قوارير شرب منها آخرون!!".
وفي اليوم التالي، وفيما رحت أجوبُ الساحة المظللة بالأشجار؛ عثرتُ على قارورة كانت مخبّأة تحت شجرةٍ ومغطاة بالحشائش والأوراق، وبها أكثر من النص.
ولشدة فرحي بالعثور عليها، صحت بكل صوتي:
"منصوووور، يا منصوووور".
وأقبل منصور كالمفزوع، وقال لي:
"ما لك فجّعتنا!! ليش تصيِّح لي بكل صوتك، وانا جنبك؟!!".
قلت: "مو درّانا أنك جنبي، أحسبك بعييييد!!".
وسألني- وهو يخطف القارورة من يدي-: "أين لقيتها؟".
قلت - وأنا أشير إلى الشجرة-:
"تحت آذيك الشُّجْرِيْ".
قال -وهو يكرعُ شيئا منها في بطنه-:
"هذا أكيد خباها تحت الشجرة من شان يرجع لها".
قلت: "منو اللي خباها؟".
قال: "صاحبها".
وتحت الشجرة نفسها جلس وطلب مني أن أجلس بجانبه، فجلست ورحت أراقبه وهو يشرب من تلك القارورة، التي وجدتها، وقال لي -وقد اعتدل مزاجه-:
"هذا الشراب -يا عبد الكريم- شراب فاخر وغالي، مش هو من الرخيص".
وسألته: "موذا اللي تشربه -يا منصور؟".
قال -وهو يقرِّب القارورة من أنفي-:
"شم".
قلت: "ما شُمش".
قال: "كيف ما تشمش، كل الناس يشموا، ليش أنت ما تشمش؟".
قلت: "من عند الله (ولم أكن أعلم حينها بأن هناك علاقة بين ميسم السيد وبين فقداني حاسة الشم)".
قال لي: "شتحلف يمين أنك ما با تتكلم، لو قلت لك أيش هو؟!!".
قلت: "والله العظيم، والقرآن الكريم، ما أتكلم".
قال -وهو يشرب من فم القارورة-: "هذا خمر".
ولحظتها اجتاحتني قشعريرة رُعب، وقلت وأنا مرعوب:
"سألتك بالله -يا منصور- آذَ اللي تشربه خمر؟!!".
قال: "أيوه خمر..".
وحينها فقط عرفت أنهم في فرن الحاج يرسلوني كل صباح لأجمع لهم قوارير الخمر،؛وقلت بيني ونفسي وأنا مصدوم من الخبر الذي سمعته-: "كيف يخلينا الحاج عبد الله نعمل هذا العمل،؛وهو حاج وداري أن الخمر حرام!! وكيف لو عرفت جدتي!!".
وفيما كان عقلي قد شرد بعيداً، سمعتُ منصور يقول لي:
"في الدنيا ثلاث جنات -ياعبد الكريم-: جنة النسوان،؛وجنة السينما، وجنة الخمر، وانت عرفت جنة واحدة -جنة السينما - باقي لك جنتين على شان تكون رجال".
قلت: "الخمر حرام -يا منصور- لمو تشربه، وانت داري أنه حرام؟!!".
قال: "الخمر يسلِّي على قلبي".
قلت:
"كيف طعمه!! حالي!!".
قال: "لا".
قلت: "مثل البيبسي!!".
قال -وهو يمد لي بالقارورة-:
"اطعم وأنت با تشوف بنفسك".
وبعد أن طعمتُ، قلتُ وأنا أبصق في الأرض:
"يعْ موذا!! مرير مش هو حالي!!".
قال: "مرير لأنك طعمت وما شربت.. اشرب وهو با يطلع للرأس وبا يحلي".
قلت -وأنا أعيد إليه القارورة-: "لا -يا منصور- لا، الخمر حرام ".
قال يستفزني: "قد قلت لك أنك عادك زغير؛ ومش أنت رجّال".
قلت - وقد استفزني بكلامه-: "أنا رجال -يا منصور- رجال".
ومسكت القارور ورفعتها إلى مستوى فمي، ورحت أكرعها في بطني، وهو
يصرخ مرعوبا:
" خلِّي لي.. بقِّي لي.. مش كلها.. مش كلها".
وبعد أن كرعتُها في بطني، نظرت إلى منصور نظرةً مفعمةً بالتحدي، وقلت له: "ذلحين أنا رجال والا لا!!".
قال لي، وهو شبه زعلان:
"ذلحين أنت بالجنة، وأنا لا
قلتُ: ليش؟".
قال: "ذلحين أنت دخلت الجنة وحدك، وأنا بالباب حانب؛ لا أنا داخل، ولا أنا خارج، لكن أنا السبب؛ قلتُ ادخِّلك معي الجنة، وأنت دخلت وخرجتنا".
قلتُ وقد أخذتني النشوة:
"ولا عليك إلا أدخِّلك الجنة مثلما دخَّلتنا".
وطلبتُ منه أن يجلس تحت الشجرة، ولا يتحرك حتى أعود من جولتي. ومع أننا كنا قد ملأنا سلتينا بالقوارير، وكان وقت عودتنا قد أزِفَ.. إلا أن عامل الفرن منصور كان غير قادرٍ على حمل سلة قواريره من دون أن يملأ قارورة رأسه.
كان ثمة أماكن غنية بالقوارير لم نمر عليها؛ فذهبتُ إليها ومعي تلك القارورة، التي قال منصور عنها إن الشراب الذي فيها من النوع الفاخر.
كانت القارورةُ جميلةَ الشكل، ومميّزة؛ لذلك حرصتُ على أن آخذها معي لأقطِّر فيها ما تيسّر من قطراتِ حليبِ الزجاجات.
وعند وصولي الجانب الآخر من الساحة، رحتُ "أُنَذِّي" القوارير؛ قارورةً بعد الأخرى. وكنت كلما عثرتُ على قارورةٍ فيها بقايا لا أكتفي بصب بقاياها في قارورتي. وإنما كنتُ أعصرها مثلما يعصرُ أحدهم حبة الليمون.
ولم أكن ارمي بالقارورة إلا بعد أن تطلع روحها؛ وبعد خروج آخر نفس منها، وآخر قطرة.
ومن الجانب الآخر للساحة، عدتُ إلى منصور، ومعي أكثر من ثلث. حتى إنه حين أبصرني قادماً وأبصر المحصول، الذي عدت به، راح -من شدة فرحه- يشكرني، ويقبّلني في رأسي، ويقول لي -وهو يشرب بنهم من فم القارورة وبجرعات كبيرة-:
"أنت -يا عبد الكريم- ولد مبروك؛ يدك مبروكة، أنت من اليوم أخي من الرضاعة".
ولم أفهم ما هو قصده حين قال إني أخوه من الرضاعة!!
وعندما سألته عن معنى كلامه!!
قال إننا - نحن الاثنان - رضعنا من قارورةٍ واحدة. وإن القارورة، التي شربنا منها، هي بمثابة أم لنا، ولبنها أفضل من لبن أمهاتنا".
قلت معترضا على كلامه:
لبن الأُم لبن من صدق وحلال، أما لبن القارورة فهو خمر، والخمر حرام".
قال: "لبن الأم يخلِّي الأخوة أعداء، ولبن القارورة يخلّي الأعداء أخوة".
كان يتكلم ويشرب، وكلما شرب أكثر يقول كلاما أكبر من عقلي.
ومما قاله لي يومها، ولصق بذاكرتي:
"قرابة الخمر أدْوَمْ من قرابة الدم".
وحين سألته عن "معنى أدوم"؟قال موضحا:
"لومعك أخ من لبن أمك، أُخوَّتكم تكتسر مثلما القارورة،
أما لو معك أخ من لبن القارورة فأُخوّتكم تدوم ولا تكتسر".
وبعد قوله ذاك، تذكرت لطمة أخي عبد الحليم، وشعرتُ بأنه يقول الحقيقة.
كانت الشمسُ قد أشرقت، وكنا قد تأخرنا عن موعد عودتنا.
وعندما قلت له إننا تأخرنا، راح يواصل الشرب، ويواصل الكلام.
ولاول مرة، رأيت الخمرةَ تفعلُ فيه عكس ما كانت تفعله من قبل. فبدلا من أن ينتشي ويكتسي وجهه بالفرح؛ رأيتهُ حزيناً على غير العادة، وكان حزنهُ يكبر كلما شرب أكثر.
وبدلا من أن تحمله تلك القطرات المتساقطة من سماء القوارير إلى الجنة، إذ بها تقذفُ به إلى هاوية الجحيم: "جحيم الذاكرة".
تذكر منصور طفولته، وتذكر أمه التي ماتت فوق ظهره، وهو يحملها ليوصلها إلى أقرب مشعوذ في أقرب قرية.
وقال يعتذر لي؛ بعد أن طاف بي في جحيم معاناته:
"سامحنا -يا عبد الكريم- أنا كنت أمزح معك، وما كان قصدي أزيد علوك، وأخلِّيك تشرب الخمر، أنت رجِّال من دون ما تشرب خمر. أقسم لك بروح أمي اللي طلعت روحها للسما، وهي فوق ظهري، إننا أحبك، وأحب لك الخير، أشتيك تتعلم شرب العلم مش تتعلم شرب الخمر، أنت عادك زغير وتدرس؛ وأمامك مستقبل، أنا أشرب -يا عبد الكريم- لأننا ضايع، لا درست، ولا لقيت جدة مثل جدتك؛ ترشدنا للمدرسة؛ وتشجعنا على الدراسة،
صدقنا أنا ندمان، وزعلان من نفسي؛ من اليوم أنت أخي الزغير، والذي تطلبه مستعد أوجده لك من العدم، لكن بشرط تدرس، وتهتم بدراستك، لا أريدك أن تضيع مثلي؛ يكفي أنا ضايع، وكل يوم أضيع؛ والكلام الذي قلته لك عن الجنات الثلاث لا تصدقه، أنا تعذبت؛ حياتي كلها عذاب، ولو ما يرحمناش ربي بعد موتي ويفتح لي أبواب المغفرة؛ شاخرج من جهنم الدنيا إلى جهنم الآخرة".
كان منصور، وهو يكلمني كأنه يتعذب؛ لكأن الجحيم أصبحت تقيمُ في داخله. كانت الكلمات تخرج من فمه كأنها الجمرات. وكنت أنا أحترق بكلماته، وأحس بجحيم معاناته، ثم وقد أفرغ من صدره تلك الشحنة الجهنمية؛ أجهش يبكي وأبكاني معه.
كان يبكي، ويعتذر لي بلسانه، وبدموعه، وبيديه. وكنت أنا أبكي، وأقول له إنني لست زعلانا منه. ورحنا الاثنان نحتضنُ بعضا، ونعتذرُ لبعضنا، ونبكي بصوتٍ واحد؛ لكأننا إخوان من أمنا القارورة، أو كأننا طفلان من أطفال القوارير.
وفجأة، ومن دون سابق إنذار، شعرتُ بدوارٍ شديدٍ وبغثيانٍ ورغبةٍ شديدةٍ في القيء، وحتى لا أوسخ ظل الشجر، التي رويناها بدموعنا، رحتُ أجري إلى ظلِّ حائطٍ قريب، وجثوت على ركبتي، ورحت أتقيأ، وأفرغ كل شيء في بطني الفارغة.
وفيما أنا أتقيأُ، وأطلق أصواتًا مريعةً، نهض منصور من مكانه، وهو منزعجٌ، وقلقٔ عليّ، لكنه من فرط ما شرب ترنّح وسقط أرضاً.
ويومها نمنا في ظل الشجرة إلى ما بعد صلاة العصر.