مقالات
أبو الروتي.. هذي هِيْ السينما.. هذي "بيت الشيطان" (3)
في طريقنا إلى بيت جدي علي إسماعيل، كنت أمشي وأتلفَّت وأحملق في وجوه المارّة، وأكثر ما كان يلفت انتباهي النساء والصبايا، وكان شُبَاطَة قد لاحظ ذلك، وقال لي:
"مالك لو ما تشوف حُرمة تلفت لا عندها، وتُقعِّي.. كن امشِ ساني مثل العِرْجْ، لاتلفت لا يمين ولا يسار".
وكان من الصعب عليّ - وأنا في عدن - أن أمشي مثل "العِرْجْ"، وكيف بمقدوري ذلك وكل شيء فيها يستوقفك، ويلفت انتباهك!!
لكن أكثر ما كان يستوقفني ويلفت انتباهي هو الجمال، وبالأخص جمال العدنيّات، وبقدر ما كان جمالهن يثير دهشتي كنت أندهش أكثر من خروجهن ليلا، وسيرهن في الشوارع وهن بكامل حريتهن وبكامل زينتهن، وكان شُبَاطَة يصرخ قائلا كلما ضبطني متلبسًا بالتحديق في وجوههن :
"كم مرة قلت لك لا تلفت لا عند النسوان، وانت ولا تفهم".
قلت له: "بس هاذِن -يا شُبَاطَة- باين ما فيش معاهن أهل يربوهن، والا كيف يمشين بالليل بين الرجال وهن مُبَوْدَرَاتْ، ومُحَوْمَرَاتْ ؟!!".
وكان أن وجد شُبَاطَة في كلامي مدخلا للتنفيس عن غضبه، وانفجر قائلا: "العدانية ما فيش عندهم رُجُولة ولا غيرة على نسوانهم، وحتى الفقهاء حقهم كذابين ومنافقين، يحللوا الحرام ويحرموا الحلال، ولو هم فقهاء ورجال دين من صدق يقدروا يزيلوا كل هذا الفحش والمنكر لكنهم جبناء".
وراح شُبَاطَة يواصل كلامه ويقول لي، وهو في غاية الانفعال:
"شوف -يا عبد الكريم- عدن هذي يحكمها النصارى، وهم كفار، ومن يوم دخلت بريطانيا عدن سمَحَت بفتح المِخْمَارَات والسينمات، وبفتح المراقص والملاهي في عدن والمُعَلّا والتُوَاهِي، وسمحت للنسوان يتْعَرْطَطَيْن مثل النصرانيات، ويخرجين من بيوتهن عراطيط".
ولأني لم أكن قد أبصرت عدنيات يمشين عاريات، قلت له وقد تفاجأت بكلامه عن النصرانيات:
"من صدق -يا شُبَاطَة النصرانيات يخرجين عراطيط ؟!!".
قال شُبَاطَة مستفَزًا: "من صدق.. مُوْ اكذب!! النصارى كفار دينهم أمرهم يتْعَرْطَطُوا، وأمر نسوانهم يِتْعَرْطَطَيْنْ؛ ديننا لا أمرنا نِتْعَرْطَطْ، ولا أمر نسواننا يتعرططين".
قلت: "أين هن النصرانيات -يا شباطة- ما شفت ولا نصرانية؟".
قال: "ما تشتي من النصرانيات تسأل عليهن!! النصرانيات با تشوفهن لما تروح التواهي عند أخوك عبد الحليم، لكن انتبه تُوْقـَع مثله".
وراح شُبَاطَة يكلمني عن أخي عبدالحليم، وقال إنه في عصر ذات يوم أبصره في التواهي يمشي مع بنت نصرانية، وبدا متألماً منه.
قلت له: "مُوْ عبد الحليم تزوج نصرانية؟!!".
قال شُبَاطَة: "صاحبته مش هي زوجته".
قلت: "بس حرام يصاحب نصرانية".
قال لي: "أخوك عبد الحليم لا يعرف الحلال ولا الحرام، لكن الغلط من جدك علي إسماعيل دخَّله مدرسة النصارى، وتخرَّج نصراني".
وعندها رحت استرجع حديث جدتي وهي تكلم نساء القرية عن أخي عبد الحليم، وقلت له:
"عبد الحليم يتكلم نصراني، لكن مش هو نصراني".
قال شُبَاطَة: "شوف -يا عبد الكريم- النصرانية ما تصاحبك ولا تخليك ترقد معها إلا بعد ما تتنصَّر، وتبطل تصلي، وبعد ما تشربك خمر".
ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة رعب، وقلت:
"مْوْ عبد الحليم يشرب خمر -يا شُبَاطَة؟".
قال شُبَاطَة، وقد راح يتهرَّب من الإجابة عن سؤالي:
"الله أعلم، لكن النصرانيات يشربين خمر، ويقْحُبَيْن، ويفعلين كل شيء، دينهن مرخِّص لهن، ويوم السبت والأحد تشوف النصارى والنصرانيات بالساحل عراطيط، ومتحانبين مثل الكلاب".
ورحتُ استرجع صور الكلاب في القرية وهم في حالة سِفاد، وقلت له وأنا غير مصدّق: "شفتهم بعيونك!!".
وزعل شُبَاطَة من سؤالي، وقال لي متهكِّماً:
"شفتهم بعيونك!! شفتهم بعيونك!! يعني مش مصدقنا مقصدك أننا اكذب!!".
وكان شُبَاطَة من النوع الذي يغضب من كل من لا يصدقه، أو يشكك في كلامه، ويغضب أكثر من كل من يطلب منه دليلا على صحة أقواله.
وقال لي يومها إن له في عدن أكثر من عشرين سنة، وأنه يعرف حواري عدن وأزقتها، ويعرف كل من فيها العدانية والجبالية والبدو، ويعرف النصارى والبينيان والصومال والهنود واليهود.
وبمجرد أن ذكر اليهود تذكرت الطفلة سارة، وسألت شُبَاطَة وقلت له:
"أين هم -يا شُبَاطَة- اليهود اللي كانوا عندنا؟".
قال شُبَاطَة محتدًا: "أيش من يهود كانوا عندكم؟!!".
قلت: "اليهود اللي كانوا بالمَجَارِيْنْ جنب بيتنا".
وغضب شُبَاطَة من سؤالي عنهم، وقال لي: "ما تشتي منهم؟".
قلت وقد أرعبني سؤاله: "ولا أشتي حاجة".
لكن الحقيقة هي أني كنت في شوق للبنت سارة اليهودية، كانت في نفس عمري، وكنت ألعب معها كل يوم في "المجارين". وفي عصر ذات يوم، ونحن نلعب معًا، راحت أمي تناديني من سقف بيتنا وتطلب مني أن أدخل، وأنا أرفض الدخول، رغم نداءاتها المتكررة، حتى إنها -لشدة ما غضبت مني- خرجت بنفسها وقالت لي:
"والله إنك يهودي مُزَنِّرْ".
قالت ذلك، وانتزعتني من جنب الطفلة سارة، وادخلتني البيت، وعند دخولي أبصرتُ السيّد عبد اللطيف الصوفي واقفا لي بالمرصاد وبالميسم، وبمجرد أن أبصرت الميسم الملتهب الرأس حتى شعرت بالرعب، ورحت أبكي وأصرخ بكل صوتي، لكن السيّد عبد اللطيف الصوفي، الذي كان قد حضر ليعالجني بالكي من تبولي اللاإرادي أثناء النوم، تمكن بمساعدة أمي وأختي "نَمِيْم" من وسمي في قدمي اليسار تحت أصبعي الصغيرة، وكان ذلك الميسم ومازال وحتى اليوم يذكرني بالبنت اليهودية سارة التي غادرت القرية مع أسرتها، وهي في السنة الرابعة من عمرها.
وكان في ظني، وأنا أسأل شُبَاطَة عن "يهود المَجَارِين"، أنهم موجودون في عدن مثلهم مثل كل أبناء قريتنا الذين يسافرون إلى عدن، لكن شُبَاطَة قال إن يهود قريتنا وغيرهم من يهود قرى مملكة الإمام سافروا فلسطين، وأما اليهود الذي كانوا في عدن فقال لي بالحَرْف:
"خرَّجناهم من عدن غصباً عنهم، ولا بقَّينا يهودي".
قلت له:
"ليش خرجتموهم من عدن -يا شُبَاطَة- أيش عملوا؟!!".
قال لي، وقد أزعجه سؤالي:
"يهود وتقول لي أيش عملوا !!عملوا والا ماعملوا لا بُد ما يخرجوا ويروحوا بلادهم، أيش جلَّسهم ببلاد المسلمين، وهم يهود؟!!".
وراح شُبَاطَة يحدثني بزهو عن دوره في الاحتجاجات ضد اليهود في مدينة عدن، وهي الاحتجاجات التي حدثت عام 1947، عقب تصويت الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين، وكانت تلك الاحتجاجات -بحسب ما ذكرته الصحف العدنية- قد خرجت عن السيطرة، وتحولت إلى أعمال عنيفة ودموية؛ تسببت في مقتل 82 يهوديا، وإصابة 46، وسرقة 106 من المحلات التجارية اليهودية من أصل 170 محلا، وفيها تم إحراق ونهب وإتلاف 220 منزلا يهوديا، وأربعة معابد يهودية، ومدرسة للبنات.
وبعد حديث شُبَاطَة عن دوره في إخراج اليهود من عدن، شعرت بأنه رجل قوي، وأن بمقدوره، وقد شارك في إخراج اليهود من مدينة عدن، أن يخرجني ويعيدني إلى القرية.
ولشدة خوفي من أن ينفذ تهديده، ويعيدني إلى القرية، قلت له:
"ما دام خرَّجْتم اليهود -يا شُبَاطَة- من عدن تقدروا تخرِّجوا النصارى".
قال شُبَاطَة، وقد أعجبه كلامي:
"با نخرِّج النصارى مثلما خرَّجنا اليهود، وبا نخرِّج البينيان والصومال والهنود، وكل الكفار من عدن، ولو ما خرجناهم لا تسمينا شُبَاطَة".
وفي تلك اللحظة، وهو في ذروة زهوه، مرت ثلاث بنات عدنيات لابسات "الميني جوب"، وكان "الميني جوب" في الستينات من القرن الماضي قد اجتاح مدن العالم: لندن، باريس، بيروت، القاهرة، عدن.. الخ، وبمجرد أن أبصرتُ عُريهُنّ صاعدا إلى ما فوق ركبهنَّ تجمِّدتُ في مكاني من شدة الذهول، وقلتُ مخاطبا شُبَاطَة -وأنا أشير باتجاههن-:
"البنات عراطيط -يا شُبَاطَة- كيف اكَّهْ!!".
لكن شُبَاطَة بدلا من أن يصرخ فوق البنات، راح يصرخ فوقي، ويقول لي:
"أنت باين عليك قليل أدب".
قلت محتجًا: "أنا قليل أدب والا هِن!!".
قال وهو في ذروة غضبه:
"أنت.. من ساعة ما خرجنا من المطعم، وانت تتفرج على وجوه وأصماح النسوان".
ومالبث أن جُنَّ عند اقترابنا من "سينما هريكن"، وشعرتُ كما لو أن جنِّياً تلبَّسهُ، فقد راح يشتم ويلعن، ويقول كلاما لم أفهم شيئا منه، ثم صاح بكل صوته وقال لي:
"هذي هِيْ السينما -يا عبد الكريم- هذي بيت الشيطان،
شوف على قَصْر بنوه للدَيُّوْسِيْن، والمُعَرَّصِيْن، والمَخَانِيْثْ".
وبعد أن راح يحذِّرني ويخوفني، ويكرر الكلام نفسه الذي سمعته مرارًا، قال لي:
"لو دَرَت جدتك -يا عبد الكريم- أنك دخلت السينما والله لا تبهذل بك، وتبهذل بنا كلنا".
وكان أهالي قريتنا -بما في ذلك الذين في عدن- يخافون من جدتي ويهابونها، وحتى جدي علي إسماعيل بعد أن تزوج جدتي آمنة شاهر -لشدة خوفه منها- هجرها وهجر القرية، واستقر في عدن، لكنه وقد تركها ترك لها اثنين من أعظم الاختراعات العصرية، وهما:
"الناظور والراديو".
وبواسطة الناظور صارت جدتي تعرف كل تحركات أهل القرية، وترى ما لا يُرَى، ومن خلال الراديو صارت تعرف أخبار الدنيا، وتسمع ما لا يُسمَع. وبواسطة الناظور والراديو أصبحت سلطة، وفرضت سلطتها على الكبير والصغير، وعلى الحاضر والغائب، وصار الكل يخافها ويهابها، ويحسب حسابها بما ذلك شُبَاطَة الذي يهابه الجميع.
ولشدة خوفه من أن أشكوه إليها، قال لي، ونحن نقترب من بيت جدي، بنبرة هادئة:
"شوف -يا عبد الكريم- اليوم أنا موجود بكرة مش موجود، اليوم أنت زغير بكرة تكبر وتتذكر كلام عمك شُبَاطَة.. واشتي أقول لك: النصارى فتحوا السينمات على شان الناس يتعلموا قلة الأدب".
قلت له:
"مو السينما مدرسة لما يتعلموا فيها قلة الأدب؟!!".
قال: "السينما مثل المدرسة، لكن المدرسة يدخلوها الطلبة بالنهار يتعلموا ويخرجوا منها بعلم ينفعهم.. أما السينما يدخلوها بالليل يتعلموا المِدْيَاسَة والمِعْرَاصَة وقلة الأدب".
قلت: "ليش يفتحو السينما بالليل، وما يفتحوهاش بالنهار؟!".
قال: "يفتحوها بالليل على شان ما يشوفوهم".
قلت: "بس -يا شباطة- في ضوء بالسينما، وفي سراجات".
قال: "أيوا في، لكن بعدما يدخلوا يطفوا السراجات، ويعملوا كل شيء بالغدرة".
وبعد كلام شُبَاطَة وقوله إنهم يطفئون السراجات، ويعملون كل شيء في الظلام، صار بي خوف من السينما، ورحت أسال نفسي:
"أيش يدخلوا يعملوا بالغُدْرَة؟".
كان بيت جدي يقع في حي الخِسَاف، أمام نادي الحسيني ومطعم البحر الأحمر، وفي الوقت نفسه كان قريبا من سينما "هريكن"، وعلى بُعد خطوات منها، وعند الوداع وهو يودعني قلت له أطمئنه بأن جدتي أرسلتني إلى عدن لأدخل المدرسة، وأكمل تعليمي، وليس لأدخل السينما وأتعلم قلة الأدب.
وفرح شُبَاطَة بكلامي، وذهب وهو مرتاح مني، وكان آخر كلام قلته له قبل عودته إلى محل عمله:
"بلغ أخي -سيف- السلام".