مقالات
أبو الروتي(5)
(كنت كلما سمعت خطيب الجامع يتكلم عن بنات الحور تذكرتُ فاتن حمامة)
عندما وصلت بيت جدي، علي إسماعيل، لم يكن جدي موجودا، وإنما كانت هناك جدتي آمنة، وقد استقبلتني بحرارة، وكانت ظريفة وخفيفة دم، حتى إنني أحببتها من طريقة استقبالها لي، ومن طريقتها في الحديث.
وكانت جدتي آمنة هي الزوجة الثانية لجدي، وبعد أن تزوجها أخذها معه إلى عدن، وهجر جدتي، وهجر القرية، ولم يعد إليها، وكان لدى جدي علي ادإسماعيل دكان في "حي الخُسَاف"، وله منزل أمام نادي الحسيني، ومطعم البحر الأحمر، وحين جاء دخلت أسلم عليه، لكني لم أشعر بأنه فرح بمجيئي، أو اندهش، أو حتى سأل كيف، ومع من جئت؟!!
كان جافاً، ويبدو غاضباً، أو مهموماً، ولم يفتح معي أي كلام، ولم يعرض عليَّ أن أقيم عنده في البيت، ولم يسألني عن السبب في أنني نزلت في بيت الحاج، ولم أنزل في بيته.
ومع أن جدتي كانت قد كتبت له أن يبقيني عنده في البيت، ويسجلني في مدرسة النصارى، التي درس فيها أخي عبد الحليم، إلا أنه لم يفتح معي موضوع السكن، وموضوع الدراسة، وبدا متجهِّماً وصامتاً.
وبعد أن ضقت بتجهّْمه وصمته عدت إلى الثرثرة مع بنت خالي، وصديقاتها، كنت أكلمهن عن عالم القرية، وأقول لهن كلاما يعجبهن، ويثير دهشتهن، ويدفعهن إلى الضحك.
وكانت الكلمات تخرج من فمي بيسر وسهولة، وتترك أثرها في نفوسهن، وليلتها كنتُ مُتجِلِّياً، وفي كامل لياقتي الذهنية، وكانت معنوياتي عالية.
لكن فيما بعد، عندما جاء الحديث عن المبيت، تذكرت وصية جدتي وقولها:
"كن ارقد ببيت جدك، لكن إِلتَهِم تبول".
عندئذٍ انهارت معنوياتي، وفقدتُ لياقتي في الحديث، وبدا عليّ الارتباك، ورحت أتعثَّر بكلماتي.
وبعد أن كنت أتكلم كلاما يثير دهشتهن، والكلمات تخرج من فمي بسهولة، وبدون جهد، وجدتني أتلعثم، ووجدت نفسي بين فكي كماشة الخوف،
خفتُ لو نمتُ في بيت جدي أن أنهض الصباح وفراشي مبتلا ببولي، وخفت لو أنا غادرت بيت جدي وعدت إلى بيت الحاج أن أضيع.
وبين الفضيحة والضياع؛ اخترت الضياع. ورأيت أن من الأفضل لي أن أضيع بدلا من أن أفتضح.
ليلتها وأنا أهم بالمغادرة سألتني عمبرود (زوجة خالي عبد الوهاب) إن كنت أستطيع العودة بمفردي إلى "سوق الاتحاد"؟
فأجبت بالإيجاب، وحسناً فعَلَت بذكرها العنوان، فقد لصق الاسم بذاكرتي، ومنحني شعورا بالأمان.
وقبل خروجي، مررتُ أودع جدي، وكان في ظني أن جدي سيطلب مني أن أبقى في بيته، ولن يتركني أعود إلى بيت الحاج عبد الله؛ لكنه لم يفعل، ولم ينبس ببنت شفة، واكتفى بأن أدخل يده في جيبه، وأخرج لي بضعة شلينات، وكأنه يقول لي:
"هذا كل ما أستطيع أقدمه لك".
لكني في تلك اللحظة لم أكن أحتاج من جدي أن يدخلني بيته، أو يدخلني أدرس في مدرسة النصارى، التي درس فيها أخي عبد الحليم، وإنما كنت احتاج إلى النقود، وذلك بعد أن نصب عليِّ الرجل الذي قال سيوصلني إلى بيت جدي بالتاكسي، وسرق الشلينات الخمسة، التي أعطتني إياها جدتي.
وعند خروجي من بيت جدي، توقفت أمام سينما هريكن"، ورحت أتفرج على ملصق الفيلم، ولفت انتباهي وأنا أحملق في الملصق صورة امراة جميلة تنحني فوق رجل مطروح على الأرض وتقبِّله.
ثم وقد أشبعت عيني من التحديق في الصورة؛ رحتُ أحدق في الكلمات، وأقرأ الكلام المكتوب في الملصق:
اسم الفيلم، وأسماء الممثلين، وكان اسم الفيلم:
"صراع في الوادي"، بطولة عمر الشريف وفاتن حمامة، وإخراج يوسف شاهين.
وبعدئذٍ شعرت كما لو أن السينما تراودني عن نفسها، وتغريني بدخولها، وكان أن دار في داخلي صراع بين رغبتين وسمعت صوتين اثنين:
صوت يقول لي: ادخل.
وصوت يقول لي: لا، لا تدخل.
وكان ذلك الصراع هو أول وأقوى صراع يحتدم داخلي بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وبين الله والشيطان.
كانت السينما في نظر أهل قريتنا هي الشر، وهي الباطل، وهي بيت الشيطان. وكان عليّ أن أتجنبها، وأواصل طريقي إلى بيت الحاج في سوق الاتحاد، لكن إبليس الذي أغوى أبانا آدم، وأمنا حواء، وكان السبب في خروجهما من الجنة، راح يغويني، ويوسوس لي بدخول السينما.
ثم وقد حسمت أمري، قررت الدخول، ولم يعد يهمني ليلتها إن كانت السينما سوف تفتح لي أبواب الجنة أم ستفتح لي أبواب الجحيم.
وحين سألت أحدهم عن كيفية الدخول إلى السينما، قال لي- وهو يشير إلى شباك التذاكر-: "اقطع تذكرة".
وبعد أن قطعتُ التذكرة واتجهتُ إلى الداخل، وجدت الأبواب موصدة في وجهي، ولحظتها ساورني شعو بأنهم نصبوا عليّ، وأخذوا فلوسي دون أن يسمحوا لي بالدخول.
ولشدة انزعاجي عدت إلى الموظف المسؤول عن قطع التذاكر، وطلبت منه أن يعيد إليَّ نقودي.
وحين سألني عن السبب، أخبرته بأن البواب لم يسمح لي بالدخول.
قال لي قاطع التذاكر إني سوف أدخل في الشوط الثاني.
ولم أفهم ما يقصده بقوله: "سوف أدخل في الشوط الثاني". فضلا عن أن الكلمة: "شوط" كانت جديدة عليّ، وغامضة.
وحين رحت أستوضح منه، صعّبها أكثر، فقد راح يتكلم بلغة الساعة التي لا أفهمها.
وقتها لم أكن أعرف لغة عقارب الساعة؛ وكان الزمن عندي، أنا الطفل القادم من القرية، ينقسم إلى ليل ونهار. والنهار ينقسم إلى صبح وظهر وعصر ومغرب. أما الليل فكان كله ليل وكله ظلام. لكن ليل المدينة كان مختلفا عن ليل القرية، كان ليلا مضيئا، وكان ذلك هو ما شجعني على الدخول ليلا، لكني لم أفهم متى سيحين وقت دخولي.
وتذكرت أنه في "مدرسة البعث" بالقرية كان هناك جرس يُقرع عند الدخول وعند نهاية كل حصة، ويُقرع عند الخروج، ولأن شُبَاطَة كان قد قال لي إن السينما مثل المدرسة، قلت بيني ونفسي:
"ما دام المدرسة فيها جرس، والطلبة يدخلون بعد سماعهم قرع الجرس، أكيد السينما فيها جرس يُقرعُ عند الدخول وعند الخروج".
وسالتُ قاطع التذاكر، وقلت له:
"هل أدخل عندما يدق الجرس؟".
لكن قاطع التذاكر الحقير الذي كان قد ضاق بي وبأسئلتي، استفزه سؤالي الأخير، وأغضبه حتى إنه راح يهشني بنفس الطريقة التي هشني بها الولد العدني صاحب الدراجة، فضلا عن أنه راح يكلم أولادا صعاليك بما قلته عن الجرس، وراح هؤلاء يقتربون مني، ويتحلّقون حولي، ويسالونني:
"من أين أنت؟ من أي قرية؟ هل في قريتكم سينما؟ وهل الناس يدخلون السينما بعد أن يُقرع الجرس؟".
كانوا يسألوني ويضحكون، ويسخرون مني، ومن ملابسي، ومن كلامي القروي، وكانت ضحكاتهم جارحة وموجعة.
وبعد أن راحوا يسخرون مني، تذكرت كلام شُبَاطَة، وقوله إن "السينما تعلم قلة الأدب"، وصار لديّ يقين أن هؤلاء الصعاليك الثلاثة تعلموا قلة الأدب من السينما، وكان أكثر ما أزعجني هو أنهم راحوا يكلمون آخرين عن جرس السينما، وصار الكل يضحك، وأنا زعلان ومتألم، ولا أدري كيف أتصرف.
وعنما لاحظ أحدهم أن الاولاد الثلاثة استخدموا جهلي سوطا يجلدوني به، تعاطف معي، وقال لي:
"أول ما تشوفهم خارجين من السينما ادخل".
وحتى لا يبصرني أحد من أهل القرية، وأنا جنب السينما، انسحبتُ إلى الجانب الآخر من الشارع، وبقيتُ أراقبُ من هناك، وانتظر خروج المُسيْنِميْن. ولا أدري كم جلستُ انتظر، لكنه كان انتظاراً صعباً.
ومما زاد من صعوبته هو أن مثانتي من طول الانتظار انتفخت، وصارت مفخَّخَة بالبول، ولم يكن لديّ علمٌ عن الأمكنة التي يُفرِغُ فيها أهل المدينة مثاناتهم حين تمتلئُ وهم خارج بيوتهم، بيد أن مثانتي لم تكن تحبس بولي فقط، وإنما كانت قد حبست عقلي ومشاعري، وعكرت مزاجي.
ثم وقد أبصرت روَّاد السينما يخرجون، اندفعت أجري، وأول ما وصلت بوابة الصالة وقف أحدهم في طريقي، وطلب مني أن أريه التذكرة، ولم يكن في ذهني بعد أن قطعت التذكرة أنهم سيطلبونها مني عند الدخول، لكن من حسن حظي أنها كانت موجودة، وبعد أن سلمته التذكرة سمح لي بالدخول، ودخلتُ لأجد نفسي في صالة مظلمة، وعلى طريقة العميان، رحت أتخبّط، وأمد يديّ أمامي؛ أتحسّسُ بهما طريقي.
وحين لامستُ أول كرسي تشبّثتُ به، وجلست فوقه، وكان أول شيء فعلته بعد أن قعدت على الكرسي هو أنني أطلقتُ العنان لمثانتي، وأفرغتها حتى آخر قطرة.
بعد أن تبولت شعرتُ بارتياحٍ، وبارتفاعٍ في المعنويات؛ إلا أن معنوياتي سرعان ما انهارت لحظة أبصرتُ رجلاً يتحركُ بمصباحٍ يدوي، ويمرُّ من جنبي، وخفتُ أن يقودهُ ضوء مصباحه إلى اكتشاف جريمة تبوُّلي داخل السينما.
ومثل المجرم، الذي يبتعد عن مسرح جريمته، رحتُ ابتعد واقعد في مقعد بعيد، ومن مقعدي ذاك رأيت روّاد السينما يدخلون الواحد بعد الآخر، ويمضون إلى مقاعدهم ويجلسون فيها، ولا يتحركون، وظننت أن هؤلاء يذهبون إلى السينما كل ليلة، وتلك المقاعد التي جلسوا عليها هي مقاعدهم، وشرد ذهني إلى "مدرسة البعث" في قرية "بني علي"، حيث كان على كل طالب -بمجرد أن يدخل الفصل- أن يجلس في المقعد المخصص له.
وفيما كنت جالساً أحملقُ في رواد السينما، وهم يتحركون في الظلام كالأشباح، أقبل أحدهم نحوي، وراح ينظر إليّ بطريقةٍ أخافتني، حتى لقد توقعت أنه سوف يقبضُ عليّ بتهمة التبول داخل السينما، لكن الرجل قال لي إن المقعد الذي جلستُ فيه مقعده، وعندئذ تبخرت مخاوفي، وتحول خوفي إلى فرح، وتأكد لي أن الناس في السينما يجلسون في المقاعد المخصصة لهم؛ مثلهم مثل طلاب المدارس، وكان أن تركتُ لهُ المقعد، وذهبتُ أبحثُ عن مقعدٍ آخر أجلس فيه، لكن الذي حدث هو أنني كنتُ كلما جلستُ في مقعد يأتي أحدهم ويدّعي بأني جلستُ في مقعده، وكنت أنا أستغرب من تصرفهم ذاك، وأقول بيني وبين نفسي:
"أيش معنى كلما جلستُ بمكان يقيّمونا ويجلسون بدلي!!".
كانت المقاعد كلها فاضية أول ما دخلت، وبعدها امتلات السينما بالمسينمين، وأنا مازلت بدون مقعد. وفيما رحت أتخبّطُ في الظلام بحثا عن مقعد، أقبل نحوي رجل المصباح اليدوي، وراح يسألني عن تذكرتي، ويقول لي:
"أين تذكرتك؟".
ولم أفهم ما الذي يريد من التذكرة، لكنه قال لي إن عليّ أن أريه تذكرتي حتى يعرف أين عليّ أن أقعد.
وكان سؤالهُ عن التذكرة قد صعقني، وأربكني، فبدوتُ مرتبكاً، ولم أدرِ ماذا أقول، ولا بماذا أرد عليه. والحقيقةُ هي أني بعد أن تبوّلت استنجيتُ بالتذكرة رميتها تحت الكرسي الذي تبولت تحته.
كان في ظني أنهم لن يطلبونها مني بعد دخولي الصالة؛ ولأن الرجل لم يتوقف عن طلب التذكرة، قلت له كاذبا إنني أضعتها، ولم يبدِ عليه أنه صدقني، وكان على وشك أن يطردني، ثم لا ادري ما الذي جعله يرفق بي، ويرشدني إلى مقعد شاغر في نهاية الصالة.
واستغربت كيف أنه يجلسني في الأخير؛ وأنا الذي دخلت قبل الجميع، وبعد جلوسي في الصف قبل الأخير كان مزاجي سيئاً، ومعنوياتي في الحضيض، وكنت أتوجّسُ خوفاً من المسينمين الذين دسّني بينهم رجل المصباح.
وقد بدالي أنهم صعاليك؛ أو ربما سكارى، كانوا يتكلمون بصوت عالٍ، وكان الجالسُ خلفي مباشرةً يسبُّ ويشتمُ شتائمَ لم يسبق لي أن سمعتها، ولم أدرِ من هو الشخص الذي يوجه إليه شتائمه..
وفيما رحتُ أنكمشُ خائفا في مقعدي، ضوّت السبورة البيضاء المعلقة عرض الجدار، وأول ما ضوّت خيّم الصمتُ على القاعة، وسكتوا كلهم، مثلما يسكتُ التلاميذ عند دخول المدرس إلى الفصل، وكان سكوتهم قد أثار استغرابي، وقلت بيني ونفسي:
"ما لهم سكتوا"!!.
وعندما رحتُ أحملقُ في السبورة البيضاء، رأيت صورة جمال عبد الناصر، وكنتُ قد شاهدتها في مجلة المصوّر المصرية، التي كان أخي عبد الحليم قد أحضر أعدادا منها إلى القرية.
وخُيِّل إلي حينها أنهم سكتوا خوفا من جمال الناصر، وكان ظهور جمال عبد الناصر في السينما قد ادأخافني أنا الآخر؛ غير أن خوفي كان مختلفا؛ خفتُ من أن يكون - أصحاب السينما - قد خدعونا، وزادوا علينا، وجابوا لنا جمال عبد الناصر بدلا عن الفيلم.
كان ثمة صراع يحتدمُ في داخلي: هل أبقى أم أخرج؟ هل أنتظر أم أغادر؟ وقبل أن أحسم أمري سألت الذي جنبي عن السبب في عرضهم جمال عبد الناصر بدلا من الفيلم؟!!
كان جوابه هو أنهم سوف يعرضون الفيلم بعد الانتهاء من نشرة الأخبار.
ولم أكن أدري ما الذي يقصده بقوله ذاك، لكني استنتجت من كلامه أن الرئيس جمال عبد الناصر سوف يخطب خطبة قبل أن يبدأ الفيلم، وما جعلني اقتنع بهذا الاستنتاج هو اسم الفيلم "صراع في الوادي"، توقعت أنه صراع بين مصر وبين دولة "إسرائيل" على الوادي، وان جمال عبد الناصر، الذي كنت أسمع صوته وهو يخطب من راديو جدتي، سوف يلقي خطابا، لكن استنتاجي لم يكن صحيحا، فقد اختفى جمال عبد الناصر من على وجه السبورة البيضاء (الشاشة)، وبدأ عرض الفيلم.
وبمجرد أن بدأ العرض حتى تبخّر شعوري بالإحباط، وتبخّرت معه كل تلك المشاعر السلبية.
لكن البداية الحقيقية للفيلم كانت مع ظهور البنت أمل إبنة الباشا "فاتن حمامة"، فقد كان ظهورها فاتنا ومدهشا وملفتاً، وضعني في مزاج رائع..
ولم أكن حتى تلك اللحظة قد رأيت امرأةً بقصة شعر تشبه قصة شعرها، أو سمعتُ صوتا أنثويا يشبه صوت أنوثتها..
وكان أن داخلتني قشعريرة لذيذة، وأنا أسمع حديثها مع حبيبها المهندس أحمد "عمر الشريف": لحظتها لم أعد أدري هل أنا في الواقع، أم في الحلم؟في الأرض أم في السماء؟ في السينما أم في الجنة؟
وعلى عكس جميع المسينمين، لم أشعر بتلك المسافة التي تفصل بيني وبين ما أشاهده في الشاشة، ولم يخالجني أدنى شعور بأن ما أراه غير حقيقي، أو أنه مجرد تمثيل أو أن رياض (فريد شوقي)، الذي قتل الشيخ عبد الصمد، وواصل القتل، كان يمثل دور القاتل ودور المجرم.
لقد رحتُ اندمجُ في الفيلم، وأتماهى مع الممثلين، وأتفاعل مع الفلاحين، وأشاركهم انفعالاتهم ومشاعرهم ومخاوفهم وشعورهم بالظلم.
وكانت الأصوات التي تنبعثُ مني لا إراديا تزعج المسينمين من حولي، وتثير استياء البعض، وغضب البعض الآخر، وكثيرا ما كنتُ أسمعهم يطلبون مني أن أسكت:
"اسكت يا وُليْد خلينا نسمع".
وبصعوبةٍ، رحتُ أكبتُ انفعالاتي وصيحاتي، وأحبسها داخلي، لكني حين رأيتهم يتهمون صابر "عبد الوارث عسر" بأنه الذي قتل الشيخ عبد الصمد (منسى فهمي)، وقفتُ وصحتُ صيحةً طلعت لا إرادية من أعماقي وقلت:
"مش هو اللي قتل الشيخ عبد الصمد".
وكانت صيحتي تلك قد لفتت انتباه المسينمين الذين راحوا ينظرون إليّ بغضب، وازدراء، أما الرجل السكران في المقعد الخلفي فقد راح يشتمني، ويشتمُ أمي، ويهدّد بأنه سوف يقذف بي للخارج إن لم أسكت.
بعدئذٍ، لذتُ بالصمت، ورحتُ أتفاعلُ مع الأحداث بصمتٍ موجع.
وعندما حكمت المحكمة على صابر (عبد الوارث عسر) أب المهندس أحمد "عمر الشريف" بالإعدام، شعرت بر غبة في أن أصرخ وأشهد بالحقيقة، وأقول للقاضي إن صابر بريئ، وإن الشاهد حسان كذاب، لكني خفت من المسينمين، ومن رد فعل الرجل السكران؛ الذي كان خلفي مباشرة.
ولشدة تعاطفي مع المهندس أحمد "عمر الشريف"، وخوفا عليه من سليم (حمدي غيث)، الذي راح يصوّب بندقيته نحوه ليأخذ بثأر أبيه (الشيخ عبد الصمد)، قلت بيني ونفسي:
"حرام.. قتلوا أبوه وهو بريئ، وذلحين يقتلوه، أيش ذنبه؟!!".
وحين رأيت المسينمين جالسين في مقاعدهم صامتين وغير مكترثين، لم يعجبني صمتهم، وعدم اكتراثهم ولا مبالاتهم، وفي الوقت الذي راح فيه سليم ابن الشيخ عبد الصمد يصوِّب بندقيته نحو المهندس أحمد بنِيّة قتله، نسيت نفسي، ونسيت المسينمين، ونسيت الرجل السكران الجالس في المقعد الخلفي، وصحت بكل صوتي:
"أوبه يا أحمد شقتلك سليم".
ولحظتها راح الكل يشتمني، وأما الرجل السكران فقد وجّه لي لكمةً قويةً من المقعد الخلفي، لكني لم أحس بها إلا بعد خروجي من السينما. والسبب هو أني في تلك اللحظة التي وجّه لي فيها لكمتهُ كنتُ في ذروة تفاعلي مع أحداث الفيلم الذي كان قد بلغ ذروته.
لكن ما أثار دهشتي واستغرابي هو أن المسينمين كانوا يسكتون عندما يرون مجرما مثل رياض (فريد شوقي)، وهو يقتل شخصا مثل سليم (حمدي غيث ) وهو يوجه رصاص بندقيته باتجاه أحمد (عمر الشريف)، وهم يعرفون أنه بريئ.
وكنت أقول بيني ونفسي:
"ليش يسكتوا؟! ليش ما يتكلموا؟! ليش مايد يشهدوا مع المظلوم ضد الظالم؟! ليش يسكِّتونا ويزعلوا منّي كلما تكلمتُ وشهدتُ بالحق؟!
وبعد أن قبّلت أمل (فاتن حمامة) حبيبها أحمد (عمر الشريف) خامرني شعور بأنهم سوف يغضبون منها، ويصرخون فوقها، ويقولون لها:
"أنت قليلة أدب ما تستحي".
لكني حين رأيتهم صامتين وراضيين "تذكرت كلام شُبَاطَة، وقلت بيني ونفسي:
"والله إن كلام شُبَاطة صح، السينما تعلم الناس قلة الأدب".
ثم وقد رأيتُ الأضواء تملأ القاعة، استغربتُ وقلتُ:
"مالهم سرّجُوا؟".
وقبل أن أعرف السبب، رأيتُ المسينمين ينهضونَ من فوق كراسيهم، ويتهيئون للمغادرة.. فازداد استغرابي، وسألتُ المسينم الذي بجانبي:
"ليش قاموا؟".
قال: "خلاص، كمّل الفيلم".
وحينها شعرتُ بحسرةٍ، وبدوتُ متردداً، وليس لدي تلك الرغبة في المغادرة، ولا الحماس الذي كان يعتريني عند سماع صوت جرس المدرسة وهو يُقرعُ إيذانا بالخروج.
وتذكّرتُ المدرسة، وكم كنتُ أضيقُ، وأضجرُ وأنا أرى الوقت يمرُّ بطيئاً، ثقيلًا، مُمِلًا، مقارنةً بالسينما حيثُ يمرُّ سريعا من دون أن تدري أو تحسّ به!!
وفي المدرسة؛ عند الخروج، كنتُ أفرحُ من أعماق قلبي لكأني خرجتُ من الجحيم إلى الجنة، أما في السينما فقد شعرتُ عند خروجي كما لو أني خرجت من الجنة إلى الجحيم.
وبعد خروجي، رحتُ استرجعُ أحداث الفيلم، وأتذكّرُ قول منصور عامل الفرن:
"السينما جنة الله".
وفعلا كان صادقا في قوله، فالسينما جنة، ومنذ الليلة التي سينمتُ فيها اختل نظام ذاكرتي، فكانت كلمة "جنة" تذكرني بالسينما، وكلمة "سينما" تذكرني بالجنة، وكنت كلما سمعت خطيب الجمعة في مسجد "سوق الحراج" يتكلم عن بنات الحُور، تذكرتُ "فاتن حمامة".