مقالات
أبو بكر السقاف المفكِّر والإنسان
في مقال للأستاذ نبيل البكيري، وهو كاتب وباحث، يؤبن فيه الراحل أبو بكر السقاف- لفت انتباهي أولاً العنوان: «أبو بكر السقاف الماركسي اليمني الأخير». فهذا العنوان المثير ليس صائباً؛ فالدكتور أبو بكر السقاف درس الماركسية، كما درس الفكر الإسلامي عميقًا، ودرس التراث والفكر الإنساني في الحضارات المختلفة العربية، والهندية، واليونانية، واليابانية، وأعد دراسات بعضها منشور. فالماركسية ليست دينًا، ولا معتقدًا.
فماركس اليهودي ليس يهوديًا، وكتابه الصغير «المسألة اليهودية»، اعتبر فيه المال إله إسرائيل. وماركس كثيرًا ما كان يردد أنه ليس ماركسيًا. أئمة المذاهب الإسلامية كانوا يقدمون اجتهاداتهم كمجرد آراء بشرية فيها الصواب، والخطأ، شأنهم في ذلك شأن أحوال الصحابة -رضي الله عنهم-، وحتى أقوال الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- فيما لم يُوحَ إليه رأي بشري: (عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم). (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). (يا أيها النبي لمَ تحرم ما أحل الله لك)، وآيات مثلهن أُخَر.
تقديس الآراء والتمذهب بها وتحويلها إلى معتقدات ودين وطوائف بداية المأساة، كما أن تحويل الأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى اعتقادات وعصبيات هي الأخرى مأساة أيضاً. رفض السقاف التحزب، واختلفت رؤاه مع أستاذ جيلنا عبد الله عبد الرزاق باذيب عندما أعلن تأسيس اتحاد الشعب الديمقراطي عام 1961.
عاش الدكتور أبو بكر السقاف مستقلاً، ومات مستقلاً، ولم يكن أول الماركسيين اليمنيين ولا آخرهم، وكان الأكثر بعدًا عن الأدلجة والأيديولوجيا باعتبارها تحويل للأفكار إلى عقائد والتزام حزبي؛ فهو مفكِّر درس الماركسية، واستوعب الفكر الإسلامي أفضل من الشيوخ الزائفين، ووعاظ السلاطين، ودعاة التكفير، وزبانية الحرب.
ويشير الأستاذ نبيل إلى فصل طلاب يمنيين متأثرين بالماركسية كنتيجة للاستقطابات السياسية بين التيارات السياسية العربية داخل شباب الجامعات والثانويات حينها في القاهرة. والحقيقة -يا أستاذ نبيل- لم يكن الطالب أبو بكر السقاف حينها طرفًا في الصراع والاستقطاب، وقد فضل مغادرة القاهرة اختياراً تضامنًا مع زملائه الطلاب: عمر الجاوي، ومحمد عبد الله باسلامة، وجعفر زين.
يا أستاذ نبيل مُهِمَّةٌ هي تحيتكم الطيبة، وإشادتكم بكفاح الدكتور أبو بكر ودوره النضالي، لكن ما أود الإشارة إليه فقط هو أن نضاله الوطني -كما تفضلتم- قد بدأ منذ المؤتمر العام الأول للطلاب اليمنيين في القاهرة، وكان السقاف السكرتير العام بالانتخاب، وكان البيان الأول أول موقف وطني يربط بين الموقف ضد الإمامة المتوكلية، والاستعمار البريطاني، وظل نهج الدكتور قائمًا حتى وفاته.
أما قولكم: إن أول كتاب يصدره «اليمن بين السلطنة والقبيلة»؛ فليس بصحيح؛ إذ صدر قبله كتابان أشرتم إلى واحد منهما، وهو «دراسات أدبية وفكرية»، الصادر عام 1977، كما صدر له كتاب آخر، هو «كتابات»؛ وقد صدر عام 1981. وليس هذا هو المهم؛ فالأهم أن الأمن الوطني في الثمانينات سطا على منزله وسرق أو نهب ثمانين مؤلفًا وبحثًا وترجمةً هي الإرث العظيم للدكتور أبي بكر. أتدري ماذا قال حينها: "لقد سُرِقَ عمري".
كان السقاف شديد العزوف عن النشر، والمجلدان اللذان صدر أحدهما في حياته، والآخر بعد وفاته قام عليها الزميلان: منصور هايل، وعبد الملك ضيف الله، وبدعم من الدكتور يحيى صالح محسن وآخرين.
لقد درس على الدكتور أبي بكر المئات في الفلسفة اليونانية، والمادية، والمثالية، والفلسفة العربية الإسلامية، والفلسفة الأوروبية، والفلسفات الشرقية: الهندية، والصينية، ودرس السقاف تجربة اليابان، والثورة الإيرانية، وكفاح العديد من الشعوب الآسيوية والإفريقية، كما درس الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والفلسفة المعاصرة، وعلم الجمال.
يشيد الأستاذ نبيل بدراسة السقاف العظيمة عن محمد محمود الزبيري شاعرًا ومفكرًا، ويعتبرها الأكثر إنصافًا للزبيري من بين كل كُتاب اليسار اليمني -لاحظوا كل!-.
نذكره فقط بكتاب الجاوي «الزبيري شاعر الوطنية»، ورد زكي بركات «الزبيري شاعر الحرية»، وتوسط الدكتور مبديًا ميلاً للشهيد زكي بركات.
ولو قرأ الأستاذ نبيل الموضوع جيدًا لأدرك دقة وصواب ومبدئية موقف السقاف من الإمامة.
للدكتور عبد العزيز المقالح العديد من الدراسات والندوات والمحاضرات الكثيرة عن الشهيد أبي الأحرار محمد محمود الزبيري، وقصيدة الأستاذ عبد الله البردوني «حكاية سنين» من أروع ملاحم البردوني في الزبيري- شاعر الوطنية كتسمية الجاوي، أو شاعر الحرية كتسمية بركات.
وما معنى قوله: «الماركسي الأخير»؟ فالماركسية فلسفة عميقة الجذور في الفكر الإنساني والحياة؛ فلم تمت بموت ماركس، أو أنجلز، أو لينين، أو بليخانوف، ولم تنتهِ بنهاية الاتحاد السوفيتي ومجموعته الاشتراكية. إنها فكر، والفكر لا يموت.
وموت المفكر أبي بكر السقاف الذي انتقد رؤى ماركسي وأنجلز، واعتباره لها في سياق المركزية الأوروبية، وانتقاده لكثير من الأحزاب الشيوعية العربية، ودراسته للنهج الماركسي كفكر مجتهد ومجدد شأن عبد الله العروي، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وأحمد صادق سعد، وعبد الله باذيب، وفيصل دراج، ومهدي عامل، وحسين مروة، وإلياس مرقص، وعشرات غيرهم- لا يعني موت الفكر؛ فلا شيء في التاريخ يموت حتى الخرافة.
لم يكن السقاف ماركسيًا بمعنى الالتزام الحزبي والعقدي، ولم يكن ناشطًا سياسيًا، وإنما هو مفكر درس مختلف التيارات الفكرية والفلسفية، وله اجتهاداته في النهج والرؤية والتحليل، كما يتجلى في نقده للماركسية في رؤيتها للمراحل الخمس، وفي طبيعتها الستالينية والبجدانوفية، وهي التي سادت.
أما القول: إنه الأخير، فغير دقيق؛ فهناك المئات والآلاف في اليمن لا يزالون يرون في الفكر الماركسي منهجًا ورؤية.
يحرص الأستاذ نبيل على وصف الدكتور أبي بكر بـ«الناشط السياسي»، و«الماركسي شديد الصلاية والمبدئية»؛ وهو ما كان السقاف ينأى بنفسه عنه؛ وذلكم سر خلافه مع رفيق دربه عمر الجاوي.
فالهم السياسي لا يعنيه كثيرًا. كمفكر دافع السقاف عن القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، ودافع عن المعتقلين السياسيين ومصادرة حقوقهم، وأدان بشجاعة التهاون في الدفاع عن السيادة، والاعتداءات المتكررة عليه بالضرب، وفقد عينه، كانت بسبب دفاعه عن حنيش، والوقوف ضد حرب 1994 (حرب الردة -بحسب تسمية الإصلاح-، والانفصال، بحسب تسمية المؤتمر الشعبي العام.
فالتجمع اليمني للإصلاح رفع شعار الردة، أما المؤتمر فأعلن الحرب على الانفصاليين، والحق إن حرب 1994 هي الانفصال الحقيقي، وبداية ما وصلنا إليه اليوم. المجلدان اللذان أصدرهما المرصد من مقالك، وأبحاث السقاف تدلل عل ذلك.
وحقيقة الأمر، فقد كان السقاف ضد الإمامة، ليس كأسرة فحسب، وإنما ضد الإمامة كنظام، ونهج، وسياسة، وتشريع، واقتصاد، وأدوات، وفكر. القوى التقليدية كانوا يطالبون بإبعاد أسرة حميد الدين، والإبقاء على طبيعة الحكم الإمامي؛ أي الإمامة بدون إمام، وهذا ما تحقق في المصالحة الوطنية عام 1970.
يشير الأستاذ نبيل إلى حرب 1994 التي هُزِمَ فيها الاشتراكي، والحقيقة، فالهزيمة قد طالت اليمن كلها بما في ذلك صُنَّاعها، وهي هزيمة للثورتين اليمنيتين: سبتمبر، وأكتوبر، وللوحدة، وهي المسؤولة عما وصلنا إليه اليوم.
أما إيقاف الدكتور أبي بكر من التدريس في الجامعة، فحصل مرتين، الأولى: أثناء خلافه مع الشهيد إبراهيم الحمدي حول التعاون، وتأكيده على الطابع الشعبي والاستقلالية للتعاون؛ فأمر الحمدي بإرساله للتدريس في المدرس الأهلية (مدرسة ابتدائية)، ثم تراجع الحمدي بعد فترة قصيرة. أما الثانية: ففي عهد صالح، وسعي الإسلام السياسي لأسلمة المناهج، ومنع الاختلاط، وفرض الحجاب، وتغليب المواد الدينية، وحظر النشاط الأدبي والسياسي والفني، وتكفير الأساتذة، وطرد بعض الأساتذة العرب كمحمد أنيس، وعبد السلام نور الدين الذي تعرض للاغتيال مرتين، ووهب رومية وآخرين، وكان حينها الأمن الوطني والإسلام السياسي يسيطران على الجامعة.
كتاب الدكتور «اليمن بين السلطنة والقبيلة» مكرس بالأساس ضد الإمامة كنظام، ونهج، وأدوات، وطبيعة تعليم. فطبيعة التعليم السلفي الذي قام به الإسلام السياسي بالتعاون مع السعودية والتيارات الوهابية هي بداية الكارثة، وهي الوجه الآخر للإمامة؛ وهو ما تصدى له الدكتور في الكتاب بالتشارك مع الأستاذ الباحث حسن شكري.
فالانحراف بالتعليم إلى السلفية الوهابية والإخوانية هو ما مكَّنَ لأنصار الله الحوثيين من تحويل التعليم إلى مذهبية وطائفية أسوأ.
الختام غير الموفق للتحية (التأبين)؛ هي اتهام الدكتور السقاف بالتهافت على الإمامة عمومًا، واعتبار موقفه ملتبسًا معرفيًا، ويجزم أيضًا بوقوع جُلِّ -لاحظوا جُلّ-اليسار اليمني في هذا التهافت. وهو لا يرى سببًا واضحًا لهذا الموقف الذي لا يبنني على رؤية معرفية عميقة بتاريخ الفكرة الإمامية الزيدية وفلسفتها، ورؤيتها الطائفية السلالية للدين والسياسية والاجتماع معًا، وهذه قراءته.
لم يُرد الأستاذ نبيل موقفًا واحدًا لتهافت الدكتور مع الإمامة، ولم يستشهد برأي أو موضوع للدكتور يؤكد هذا التهافت.
كان الدكتور أبو بكر الأكثر إدراكًا بخيبة محاربة السلالية بالسلالية، والطائفية بالطائفية، أو الشمال بالجنوب، أو الجنوب بالشمال. وعلى كُلٍّ، فتاريخ الدكتور -منذ البيان الأول للمؤتمر العام الأول للطلاب اليمنيين بالقاهرة وحتى وفاته- يدحض مثل هذا الادعاء، ولا يحتاج السقاف من يدافع عنه.
أما اتهام جُلّ اليسار بالإمامية، فيفتقر إلى قدر من اللياقة والتواضع؛ لكأن الذين قادوا الثورة اليمنية سبتمبر شباب أو قادة الإسلام السياسي، وأن حرب السبع سنوات لم يخضها مقاتلو وجنود الشعب اليمني، ومعهم حركة القوميين العرب، والناصريون، والبعث، ومستقلون؛ وهم من حموا صنعاء إبَّان حصار السبعين، وكانت قيادة المقاومة الشعبية من القوميين ومستقلين وماركسيين. عيب التحية أنها منحت الدكتور ما لم يكن يهتم به، وهو وصفه بـ«الناشط السياسي»، واتهمته بالموقف المتهافت من الإمامة، وقللت من دوره في البحث والتأليف.
الدكتور أبو بكر السقاف مات برتبة أستاذ مشارك محرومًا من الترقيات براتب لا يتجاوز المئتي ألف ريال يمني لم يعد يستلمه أيضًا، وهو الذي أفنى عمره في مواجهة الإمامة، ثم يتهم بتهافت موقفه منها.