مقالات
اجتهاد في رثاء جهاد
يُودّعني الأصدقاء والأحبّاء، واحداً تلو الآخر، من دون موعد بلقاء جديد!
فهاهم أصدقاء العمر ورفقة الزمن الجميل يتقاطرون من أمامي، يوماً وراء يوم، ولا يدعوني أحد منهم إلى اللحاق به إلى المكان الذي اختار أن يذهب إليه، وهو - بلا أدنى شك - مكان جميل ظليل مثل كل الأماكن التي كانت تجمعنا طوال عمرنا، وإلاَّ لما كان اختارها.
منذ بضعة أشهر، أُصيب الصديق الجميل وزميل المهنة الأصيل جهاد لطفي بمرض السرطان، بصورة مفاجئة وغير متوقعة لنا وله.
وبرغم أنه غادرنا إلى الخارج للعلاج من هذا المرض الأخبث، إلاَّ أن الأنباء كانت تصلنا - بصورة شبه يومية، طوال تلك الفترة - بأن وضعه الصحي يتدهور دواليك، ومن دون ذرة أمل بالنجاة من براثن هذا الداء!
ومنذ أيام قليلة، دخل جهاد في حالة غيبوبة وتنفس صناعي، طبعاً وهذا كله من دون أن تُحرّك أية جهة معنية ساكناً قط، وكأنَّ الذي يعاني نكرة، مجرد رقم في دليل الهاتف، لا إعلامي مخضرم ومبدع كبير ومثقف محترم، ولا يحزنون! . ثم تعجز أسرته عن نقل جثمانه لدفنه في مدينته التي عشقها بجنون، لضيق ذات اليد.
وهي هدية طيّبة للفقيد وأهله من حكومة الكباريهات والفنادق والمواخير!
ليل أمس (الخميس) جاءنا النبأ ليحكي المشهد الأخير، فيما جميعنا كنا نتلقاه منكسري القلوب بمعنى الكلمة، كما هو حال شريكة عمره وأنجاله الأربعة وكل أحبابه وأقاربه.
عاش جهاد ملء الحب والخير والفرح. وكان عنواناً دائماً للبهجة في أحلى صورها وأجمل معانيها. هو جهاد الوجوه الكثيرة، ولكن ليست المتغيرة: الزميل العريق، والصديق الباسم على الدوام، الرجل المكتنز أخلاقاً وتواضعاً وتفاؤلاً بلا حدود.
وهو جهاد حارس تراث والده وأستاذه الشاعر والمُربّي الكبير لطفي جعفر أمان، بل هو جهاد الزوج المُحب والأب الحنون والجد الحاني والجار الطيب، وهو الشخص الذي عرفه كثيرون جداً من أبناء مدينته عدن، كما وصفته لكم تماماً، ولهذا فإن عدن وأهلها يكتنفها الحزن اليوم من رأسها إلى ساسها.
كم كان جهاد عاشقاً للبحر، وكم طالت به الساعات في ساحل أبين، قاعداً في حضرة هذا المعشوق، متأملاً أو مُدندناً مع أحمد قاسم في بعض أغانيه، سواء كانت من كلمات أبيه الراحل أو غيرها.
وكم كان يحب حكايات الماضي الجميل، ويحنّ كثيراً إلى زمن لا يعود، وإلى عدن لا تتكرر، وإلى أصدقاء وزملاء حفروا أسماءهم وخصالهم في ذاكرته ووجدانه، ثم ذهب بعضهم في سفر لا يدري منتهى أمده ومداه، أما بعضهم الآخر فقد ذهب قبله في سفر أبدي طويل.
ولازلت أستمع إليه يتفجّر ضحكاً وهو يستعيد ذكرياته مع زميله الحميم الإعلامي المخضرم والمهاجر الجميل جميل مهدي، بما فيها من مواقف ساخرة وحوادث نادرة وطرائف باهرة. ثم أستمع إليه يتأسّى على واقع لم يكن يتوقّعه ولو في كابوس عابر، شاكياً لصديقه الصدوق حسين عفيفي ما حلّ به جراء هذا الواقع الأليم اللئيم، في الوقت الذي يأبى مجرد مناقشة فكرة المغادرة.
كان يرى أنه إذا ترك عدن سيترك الحياة كلها. وهذا ما حدث فعلاً. يوم أن ترك عدن، ترك الحياة كلها بالفعل، بل ودُفن بعيداً عنها، بعيداً جداً عنها!
جهاد. تصوَّرتُ أن أنعي وأرثي وأبكي كثيرين ممن أقاموا في صميم حياتي وفي هامشها، لكن أنت - أنت بالذات - أقسم بالله لم أتصوَّر البتة!