مقالات
احتقار العمل الإنساني
في الآونة الأخيرة انتشرت ثقافة شعبية تؤثر سلبًا على العمل الإنساني، ومع كونها ثقافة نابعة من دواعي الحرص على نزاهة العمل الإنساني_ وهي دوافع تبدو نبيلة في مظهرها الخارجي_إلا أن طريقة ممارستها وطبيعة محتواها، ذات أثر عكسي على واقع النشاط الخيري في البلاد.
فأمام كل واقعة إنسانية يوثِّقها أصحابها، يهيج الرأي العام بطريقة غوغائية؛ ليُعنف القائمين عليها، ويتهكم عليهم تحت مبررات كثيرة، ومهما بدت هذه المبررات ذات وجاهة نسبية في بعض جوانبها، كمبرر حفظ الكرامة الإنسانية وتجنب التشهير بالمحتاجين، إلا أن الأمر لم يقتصر على هذا وتجاوزه نحو ثقافة تحتقر العمل الإنساني وتلمزه بحجة ضآلته أو تسارع لتلبيسه دوافع غير نزيهة من منطلقات متخيلة مسبقًا، ولو لم تكن متحققة واقعًا.
بالطبع، قد لا تخلو النشاطات الإنسانية من دوافع الأنانية والاستثمار السياسي أحيانًا، إلا أن ذلك لا يحدث دائمًا بطريقة مباشرة، كما لا يصح أن ننصِّب أنفسنا حرّاس أخلاقيين على الفضيلة وبطريقة تعسفية أقرب للنقمة، منه لتحري النزاهة.
وبكل الأحوال، مهما كانت أهداف الممول البعيدة تصب في صالحه الشخصي، فالأمر لا يقدح في نبالة العمل الإنساني دائمًا ولا يجرده من النزاهة، طالما هو يقدم مساعداته دون أي اشتراطات خادشة للكرامة الإنسانية أو سالبة للحرية الشخصية للمستفيدين.
إن المبالغة في التوجس تجاه أي عمل إنساني مهما بدأ طبيعيًا ومتجردًا من أي مظاهر استغلالية، هو تصرف غير أخلاقي يربك إنسابية العمل الخيري ويرسخ ثقافة تشكيكية تجاه القائمين عليه، كما أنه يخفض درجة التفاعل الإنساني لدى الجهات الداعمة وأصحاب رؤوس الأموال الذين يمولون النشاطات التطوعية في المجتمع.
في الحقيقة، هناك نوع من المثالية الزائفة يتعامل بها البعض مع النشاطات الإنسانية، مثالية تتجلى بثوب الحرص على نبل الغاية، فيما الواقع يقول أنها تفتقد لأي غاية عملية ولا يتحقق منها سوى نشر ثقافة مجتمعية سيئة تجاه العمل الإنساني، وتعزيز مشاعر مرتابة ومرضية تجاه القائمين عليه، حتى لو لم تتوفر مبررات واقعية لهكذا سلوك مستاء وغاضب.
من جانب أخر، يبدو أن هذه الفئة من المتربصين بالعمل الإنساني_بقصد أو دونما قصد_ ليس هدفها تنقية النشاطات الإنسانية من أي تشوهات غير أخلاقية تلحق الضرر النفسي بالمحتاجين وتحيد بالعمل الإنساني عن مقاصده، بقدر ما تهدف لحرمان القائمين عليها من أي رصيد معنوي يعود عليهم نتاج جهدهم في سد حاجات المجتمع.
أي أن جزء كبير من الذين يعترضون على طبيعة النشاطات الإنسانية، هم يفعلون ذلك لأهداف سياسية أيضًا، في الوقت الذي يلصقون تهمة الاستثمار السياسي بخصومهم، هم يمارسونه بشكل مقلوب؛ لكن استثمار المتبربصين في هذه الحالة، أشد ضررًا كونه يترك المجتمع مكشوف دونما سند ولا قدرة على توفير بدائل في ظل غياب شبه تام لأي حضور رسمي لرعاية الفئيات الإجتماعية المسحوقة.
إن السخرية من أي عمل إنساني، مهما كان نوعه وحجمه، هو سلوك عدواني ضد المجتمع، فأنت هنا لا تنال من القائمين على الفعل فحسب، بل تستهدف قيمة الخير ذاتها. كما أن هذا النوع من المواقف المنفلتة تُسهم في تحجيم مساحة العمل الإنساني وإضعاف قيمة التكافل في المجتمعات.
بلادنا غارقة في الجحيم، وهناك ملايين من البشر المسحوقين، وبدلًا من تحفيز كل أشكال التضامن البشري معم وتعزيز التنافس الخلاق لخدمة المجتمع، يلجأ البعض للسخرية من الشخصيات العاملة في هذا المجال، هكذا لمجرد تشويش عملها وإثارة النقمة ضدها..وربما لتبرير عطالته عن القيام بفعل مواز يثبت به فاعليته وقيامه بواجبه الأخلاقي والمجتمعي تجاه الناس.
يُقاس مدى تعافي المجتمعات في الظروف القاسية، بمعيار التضامن البشري فيما بينها ومدى حضور قيم التكافل الإجتماعي والنشاطات الخيرية الهادفة لتضميد جروح البشر المتضررين من الكوارث وضمان حياة تتوفر فيها الحد الأدنى من شروط العيش الكريم لهم. وهذا لن يتحقق بالصورة المطلوبة ما لم نسهم في تمتين ثقافة العمل الإنساني والدفع لتجسيدة بأرقى صورة لائقة بالإنسان.
وعليه يتوجب أن نحاذر كثيرًا من تحويل هذا الميدان الحساس لحلبة صراع نُفرغ فيها عقدنا وصراعاتنا القادمة من ميادين أخرى لهذا الميدان وبهذا نكون قد لطخنا أخر الفضاءات الإنسانية الخالصة وأسهمنا في تشويش الضمير الخلقي للناس مهما كانت المبررات التي نتدثر بها في سلوكنا هذا.
أخيرًا : ثمة حديث أثير للنبي محمد وهو يقول: " لا تحقِرن من المعروف شئيًا ولو أن تلق أخاك بوجه طلق" حضر هذا الحديث بذهني وأنا أتابع موجة الردح ضد صورة إعلان التبرع بلابتوب وطابعة لثانوية تعز سعت إليها رائدة العمل الخيري في المدينة، حياة الذبحاني، ولم أفهم لم كل هذه النقمة ضد سلوك نبيل وطبيعي كان يُفترض أن يتلقى الإشادة وليس عدواة منفلتة وتحقير عبثي للفعل، كتلك التي رافقت الإعلان عنه.