مقالات
أحمد محمد النعمان.. الرجل الكثير ثقافة وليبرالية ومشيخا
أطلق عليه الإمام أحمد لقبي "الأستاذ " و"خطيب اليمن"، وفي البلاد تناديه الرعية "الشيخ"، وهو لأبيه "الشيخ" و"البك".
محمد النعمان يعدُ شيخًا على غير ما يعنيه الاصطلاح في واقعته اللغوية، البعيد عنه تمامًا التمثل السلطوي والحشد المدججين بالأسلحة والاصطفافات؛ كما يُلاحَظ عن شيوخ بقية البلاد.
ثم، وقد سار هذا اللقب على نحو عادي جوار الرجل في المذكرات التي تتناول "سيرة حياته الثقافية والسياسية"، وكان قد حكاها النعمان عام 1969م، وتأخّر طبعها وخروجها إلى النور حتى عام 2003م في القرن الواحد والعشرين، نجد أول الأسئلة الموجهة في الحوار، الذي لا ندري من محاوره، يستفيق هذه المفردة تحت "حضرة الشيخ"، وحضرة الشيخ في هذا الكتاب صاحب السيرة الثقافية والسياسية هو "صانع القضية الأول"، والتوصيف للزبيري، ثم كرره آخرون من قبيل الفسيِّل والشامي والسيف إبراهيم، الذين، بالرغم من طابع الخلاف الدائر بينهم في تلك الفترة مع الأستاذ النعمان، كانوا جميعًا يتفقون أنهُ الأول نضالاً من بينهم، الذي صنع لهم القضية كما خطط لها، وعمل كثيرًا منذُ الثلاثينات والأربعينات حتى فترة الخمسينات والستينات.
ولا تنتهي الألقاب المسايرة لهذا الرجل عند هذا الحد من أنه الشيخ والأستاذ المثقف التنويري، والخطيب المفوُه، ففي لغة الصحافة والإعلام اليمنية يُعرف النعمان أحمد محمد ب"نعمان الأب"، وذلك دلالة للتفريق بينه وبين ولده السياسي والمثقف الآخر محمد أحمد النعمان، وعائلة "النعمان" من أبرز الأسر اليمنية، التي اشتغلت بالسياسة، وهُم كُثر لا يتسع المجال هنا لذكرهم، وقد استحقوا في كتاب "اليمن الجمهوري" أن يَطلق عليهم عبدالله البردوني جمع "النعمانيون" مقابل "الشرجبيون" و"الزرنقيون"، و"آخرون".
ولا يتوقف الأمر فقط عند مجموع هذه الألقاب، ففي عام 1948، حين كان أحمد النعمان من الدستوريين، وقت قاد مجموعة من الضباط الأحرار انقلابًا على الإمام يحيى حميد الدين، أردوه فيه قتيلاً، وكان النعمان حينها في الجانب السياسي من هذه الحركة الدستورية، يرى -عكس الفضيل الورتلاني القيادي الجزائري المبعوث إلى اليمن من قِبل جماعة الإخوان- في قتل الإمام يحيى متمثلًا في ذلك الجانب الإصلاحي النهضوي، الذي قاده فيه شخص المثقف، فيما تماشى معه ثوريًا إلى وجهة نظر، رأى فيه -دون آخرين- عدم جواز قتل الإمام "يحيى"، وذلك لكبر سِنه، منتظرًا حتى يقضي عليه الموت فوق فراشه عن طريق القَدر، وحينها يمكن قيام الثورة، وإعلان الجمهورية، الأمر الذي جعله في توجهه الفكري وطريقته السلمية هذه "غاندي اليمن".
ليس هذا أحمد محمد النعمان وكفى، فلدى مختصين يمنيين في التاريخ المعاصر يعد الرجل صاحب أول وثيقة تاريخية 1938؛ كان قد كتبها على نحو رسالة مطوّلة للإمامة المتوكلية، بث فيها "أنينه" "الغاثي" جدًا - إن صحت هذه المفردة.
ومثلت هذه الرسائل - فيما جاءت فيه ضمن خطابات الإصلاح السياسي- واجهة لبواكير ومحطات النضالات الأولية.
وفي كتاب الأستاذ ونقيب الصحفيين اليمنيين السابق عبدالباري طاهر (أنّات ونبوءات - في رسائل الأستاذ النعمان)، الصادر 2021م عن دار أروقة ومنتدى النعمان الثقافي، ما يزوّد أي باحث ومطّلع يسعى للمعرفة والوقوف عند أبرز وأولى البدايات الثورية وتشكلات الخطاب والعمل السياسي في تاريخنا اليمني المعاصر.
فيما كان قد صدر أيضًا للدكتور عبد العزيز المقالح كتابٌ بعنوان "من الأنين إلى الثورة"؛ تحدث هو الآخر عن هذا الجانب، وهذا كله وغيره أنطلوجيٌ من كُتب ومؤلفات، وغيره كثير من المقالات، يبرز الجانب التنويري لدى الأستاذ، الذي أصبحت حياته وتجربته بمثابة دعوة يستطيع أن يمنح منها أي باحث وقارئ نَهِم.
- مُذكرات النعمان
تعتبر مُذكرات النعمان من أهم المذكرات التي أوفت في سردها عن تاريخ المراحل التي مضت منذُ عهد الإمام يحيى حميد الدين، وابنه أحمد، وما بعده، حتى قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962، وما تلت ذلك من أحداث، مثل: تدخل المصريين، وتعاقب حكم الرؤساء، وزج النعمان في سجن في القاهرة، بسبب آرائه ووجهة نظره، وسياسته الرافضة لحكم جمال عبدالناصر، التي برزت فيها مقولته الشهيرة والساخرة جدًا، التي لا يجهلها يمني "في زمن الإمام كُنا نطالب بحُرية القول، وفي زمن عبدالناصر نطالب بحُرية البُول".
تقع المذكرات في 260 صفحة؛ صدرت عن دار نشر ومطبعة مدبولي، بدعم سخي قُدم من المركز الفرنسي لرعاية الآثار والعلوم الاجتماعية ( CEFAS)، الذي كان يرأسه حينها "فرانسوا بورغا"، الذي كان قد كتب عن النعمان من قبل في إحدى الصحف المصرية، كأهم المثقفين والسياسيين اليمنيين، ويُعد الفضل الأول له في خروج المذكرات وطباعتها، بالإضافة إلى الدكتور الباحث علي محمد زيد، الذي كتب المقدّمة لهذه المُذكرات، ولنادية ماريا الشيخ أيضًا، التي كانت تشغل مديرة مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية (CAMES)، التي ساهمت مساهمة كبيرة في طباعة المُذكرات، وخروجها إلى النور.
أثارت المذكرات النعمانية، بالإضافة إلى سردها المتسلسل الناجم عن طبيعة الأسئلة تجاه كل مرحلة مضت، الكثير من القضايا، ومن بينها جدلية الإصلاح والجمود، والتعليم التقليدي، أسئلة الحداثة والديمقراطية والعمل السياسي والحزبي في اليمن، وكذلك معضلة التحول الديمقراطي فيما بعد سبتمبر، وحديث عن القبيلة والسياسة في مرحلة التحوّل الثورية تلك، بالإضافة تحويل اتجاهات المسارات النضالية الثورية الوطنية إلى غرم سياسي ومذهبي من خلال تعاملات الأحرار الشخصية فيما بينهم.
تسرد مذكرات "النعمان" سيرتها، التي هي خليط من الذاتي والاجتماعي، في قالب يطل منه الرجل على فضاء الذاكرة، في ماضٍ قريب وبعيد منه، منذُ أن كان طفلاً إلى أن صار إلى ما هو عليه عام 1969 بعد قيام الثورة بسبع سنوات، متذكرًا وشاهدًا على تجاربه ومن رافقوه، ومساهمًا بذلك في تشكيل ذاكرة اليمنيين الجمعية، وهو دأب كل المذكرات في السِّيَر ذاتية التي ليس خالصًا تحققها على المستوى الاجتماعي في واقعيتها من غير أن يتطرق صاحبها "الحاكي لنا" لكل ما حوله من أوضاع سياسية وفكرية واجتماعية، وقوفًا عند كل مرحلة تاريخية، ولا مانع من أن يأتي كل ذلك محوطًا ومصبوغًا بذاتيته الساردة.
فمن الطفولة، وحديثه عن ختان الذكور دون النساء، حتى لعبه "للشقلح"، وانتقاله إلى المدرسة "المعلامة" حينها، التي كانت تُسمى "الكُتَّاب"، ثم سفره إلى زبيد للتزوّد العلمي، حين كانت زبيد وِجهة للتعليم الدِّيني التقليدي، وإلى عمله أستاذًا ومجيء محمد أحمد حيدرة إلى التربة، التي طُرد منها عام 1935، ثم ما تلتها من أحداث بعد سفره إلى الأزهر، وأحداث 1948 التي أُعدم فيها عمّه عبدالوهاب نعمان، كلها أحداث كانت من البدايات يسردها لنا من وعيه المُطل على فضاء الذاكرة، وحذقه السياسي بالتحوّلات.
تستمر مُذكرات الأستاذ النعمان على صعيد سياسي وثقافي في سرد الأحداث من خلال التطرّق لأوضاع التعليم التقليدي، والمرأة، والجوانب الزراعية، وبدايات العمل السياسي.
كما لا تنسَ المذكرات، وهي تُسخر للحديث عن الإمام، الحديث أيضًا عن واقع الرسائل التي كان يبعثها النعمان إلى الإمام أحمد، وهي رسائل مهمّة، ودليل كبير على إرث النعمان السياسي، الذي لا يعيبه طاعنٌ في سيرته النضالية، بل يقوّيها، ويعطيها ما يشبه النفاذ والعُمق عن حكم معرفة واقعية وتقريبية، شهدها الرجل، وتثقّف بها، وعرفها عن قُرب كما لم يعرفها أحدٌ من قبله، ومن ثم هو، بعد خبر الشيء الكثير عن الإمام وحكمهم، عرف عن تجريب وواقع كيفية الاشتغال، والقيام بعمل ثوري يسقط حكمهم المستبد الظلامي.
ولا يكفي هنا الحيّز الكتابي المسموح به لإكمال الكتابة عن النعمان شخصًا وفكرًا وذاكرة، والتعريج أيضًا على تناول الجوانب المهمّة من سيرته الثقافية والسياسية في مذكراته، وما استحثني للكتابة اليوم عن الرجل أشياء كثيرة جدًا، فإن كان من مثقف ليبرالي ورجل إصلاح نهضوي وسياسي داهية يمكن تقديمه للقرن الواحد والعشرين من بين مناضلي الرعيل الأول في ذاكرتنا اليمنية، الذين برزوا في حقبة الثلاتينات حتى الأربعينات، إلى أن تُوج نضالهم في الستينات (عهد انتصارهم على الإمامة وإعلانهم الجمهورية) فهو "أحمد محمد النعمان".