مقالات
بواحد فاصوليا دخلت الحزب الديمقراطي
كان من حسن حظي حين وصلت الحديدة أنه لم يكن هناك أشخاص من أهلي وأقاربي (لا إخوة، ولا أخوال، ولا أبناء عم). فقط كانت لي أخت هناك، متزوجة وتكبرني بعامين. وكان هناك أناس من قريتي، لكنهم كانوا أكثر تمدنًا من أبناء قريتنا الموجودين في عدن، وكانوا قد صاروا مسالمين و"مسينمين" مثل أبناء تهامة. كانوا يذهبون للسينما ولا يجدون في ذلك غضاضة، عكس أبناء قريتنا الذين في عدن، الذين كانوا يرون في الذهاب إلى السينما عيبًا ومنقصة، ويعتبرون كل من يذهب "قليل دين وقليل أدب".
وأول ما وصلت الحديدة راحوا يسألونني عن السبب الذي جعلني أترك عدن وآتي إلى الحديدة. وكنت أقول لهم إنني جئت إلى الحديدة من أجل "أسينم"، وكانوا يضحكون ويستغربون ويقولون لي:
"أيش؟ ما فيش بعدن سينمات؟".
قلت: "في سينمات، بس ما يخلونا أسينم". السينما عندهم "عيب وحرام وقلة أدب".
وكل يوم كانوا يعزموني على سينما، ويقولون لي:
"الحديدة كلها سينمات، وأهل الحديدة يحبون السينما".
وكانت تلك أول مرة أجد فيها من يعزمني على سينما. وعندما كانوا يسألونني عن الدراسة وهل سأواصل دراستي في الحديدة، قلت إنني جئت للعمل، وليس للدراسة، وأفرحهم ذلك، وشعروا بأنني من نفس طينتهم، وليس لدي تلك الرغبة في أن أتميز عنهم.
ولأنهم عمال بسطاء وليسوا متعلمين، راحوا يبحثون لي عن عمل، ويكلمون أشخاصًا يعرفونهم عن حاجتي إلى عمل.
وكان هناك ضابط في الجيش اسمه عثمان الجرادي، من قرية "الجرّيدة"، وكان شخصًا رائعًا، وعن طريقه التحقت بالجيش وأصبح لي راتب قدره ٧٥ ريالًا، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام. ثم إن الحياة في الحديدة كانت بسيطة، والمعيشة رخيصة.
وعند تسلمي أول راتب (٧٥ ريالًا)، انتقلت من بيت صهري عمر سيف إلى الشارع.
وشعرت، وأنا أنتقل إلى الشارع، بأن بمقدوري أن أعيش حياتي كما يحلو لي وكما أريد.
وفي خلال أيام، تأقلمت مع الحياة في الشارع، وصرت أعيش على راتبي من أول الشهر إلى آخره. وكان مبلغ ٧٥ ريالًا يبدو لي مبلغًا كبيرًا، وكنت أُصرف خمسة وأربعين ريالًا للأكل والشرب والغسيل وأجرة القعادة التي استأجرتها من "الدُّوبي"، وأصرف ثلاثين ريالًا على الكتب والسينما.
وفيما كان الآخرون ينصبون أسرّتهم أمام محل الدُّوبي، وينامون في زقاق معتم، كنت أنا أسحب سريري من الزقاق إلى الشارع، وأنصبه على الرصيف أمام فُرْن شخص من قريتنا اسمه علي عبده إسماعيل. كان علي عبده إسماعيل يملك فُرْنَين اثنين: فرن في باب مُشرِف، وآخر في "شارع المطراق"، لكن الفُرْن الذي في شارع المطراق كان مغلقًا.
وكان ما جعلني أنقل سريري إلى جواره هو حاجتي إلى الضوء، فقد كان هناك في الرصيف قبالة باب الفُرْن عمود كهرباء. ولأنني كنت بحاجة إلى ضوء لأتمكن من القراءة ليلًا، كنت كل ليلة أنصب سريري لصق العمود، وأشعر لحظتها كما لو أن الشارع بيتي.
ومع أنني توقفت عن الدراسة بعد ثاني إعدادي، إلا أنني لم أتوقف عن القراءة، وكنت أقرأ كل ليلة على ضوء عمود الكهرباء.
وفي العصر، وقد برد الجو، أذهب إلى البحر وأظل أقرأ في كتاب البحر إلى أن تغرب الشمس. أما في المساء، فكنت أذهب إلى السينما، لكني لم أكن أذهب يوميًّا، والسبب أن معظم الأفلام التي كانت تُعرض كنت قد شاهدتها في عدن. ومن الأفلام التي شاهدتها في الحديدة، ولم تزل في الذاكرة، فيلم: "أبي فوق الشجرة"، بطولة عبدالحليم حافظ ونادية لطفي.
وأتذكر ليلتها أن الإقبال كان شديدًا، وكان ثمة زحام عند شباك التذاكر وصراخ واشتباك بالأيدي.
ولم يكن السبب في إقبال الناس على هذا الفيلم هو أن بطلي الفيلم هما: الفنان عبدالحليم حافظ والحسناء نادية لطفي، وإنما كان السبب هو كثرة القُبَل، فقد كانت الشاشة ليلتها تمطر قُبَلًا.
ثم إن الجمهور في الحديدة كان على استعداد لتحطيم السينما إن تجرأت الإدارة على حذف قُبلة من قُبَل الفيلم.
بعد مضي شهرين على وجودي في الحديدة، تعرَّفت على شخص لم أعد أذكر اسمه، وكان مثقفًا ومؤدبًا ويتكلم كلامًا أكبر من عقلي وفوق مستوى فهمي، وكان هو الشخص الوحيد المتعلم والمثقف الذي تعرَّفت عليه.
وذات ليلة، عزمني على عشاء في مطعم "الفيلق" بشارع صنعاء. وحين سألني عما يعجبني، استحيت أقول له، فقد كنت كل يوم أتعشى في نفس المطعم "كِبْدَة"، "لحم زُغَار"، "دَقّة"، وأحيانًا أطلب سمكًا، فقد كانت ظروفي المادية تسمح لي بأكل ما أشتهيه. لكنني ليلتها، ولأنه عزمني، استحيت وقلت له:
"فاصوليا".
وطلب لي "فاصوليا"، وطلب لنفسه "كِبْدة".
وبعد أن انتهينا من العشاء، راح يلف بي شارع صنعاء وشارع المِطْراق، وشوارع أخرى لا أعرفها، ويكلمني عن حزب اسمه "الحزب الديمقراطي اليمني"، ويقول لي كلامًا كبيرًا وكثيرًا وصعبًا، لكني كنت أُصغي إليه بملل، وأهز رأسي لأشعره بأنني متفاعل معه.
وراح الرجل يحدثني عن الحزب الديمقراطي، ويقول لي إنه كان حزبًا قوميًّا لكنه تطور وصار حزبًا ماركسيًّا. ولم أكن حينها قد سمعت بهذا الحزب، وكان في ظني، وهو يحدثني عن الحزب الديمقراطي، أنه ليس له من هدف آخر غير الحديث عن حزبه. لكنه ما لبث أن فاجأني وطلب منّي أن أنضم إلى الحزب، وراح يغريني بدخوله.
وفي تلك الفترة، كانت السينما عندي هي الجَنّة، وكان دخولها أحبّ إليّ من دخول الحزب - أي حزب.
أتذكر، عندما طلب مني دخول الحزب، أنني خفت وترددت، وذلك لأنه في تلك الأيام، كما في أيامنا، كان كل حزب يشوِّه سمعة الآخر؛ مع الفارق في تشويه السّمعة بين تلك الأيام وأيامنا هذه.
أيامها كنا نسمع بأن كل عضو جديد يلتحق بهذا الحزب أو ذاك، فإن أعضاء الحزب يمارسون معه الفاحشة ويصورونه، حتى إذا قرر الخروج ومغادرة الحزب، هدّدوه بأنهم سوف يفضحونه.
ولشدة خوفي من أن يحدث لي مثل هذا الذي سمعته، سألت الشاب الذي يحاول كسبي، وقلت له:
"هل في ناس من قريتي في الحزب الديمقراطي؟!".
قال لي: "في كثير".
وعندما طلبت منه أن يذكر لي أسماء أبناء قريتي الذين في الحزب، قال لي إن ذلك غير مُمكن، لكنه، وقد أبصرني خائفًا ومترددًا، قال لي:
"زعيم الحزب من عندكم".
وذكر لي اسم "سلطان أحمد عمر".
قلت له: "مش هو من قريتي، ولا أعرفه".
قال لي وهو مستغرب من ردي:
"سلطان أحمد عمر عبسي، من الأعبوس، وأنت عبسي، وكلكم أبناء قرية".
قلت له: "قريتي اسمها "نجد الغلِّيبة".
وطلبت منه أن يذكر لي أسماء أشخاص من قريتي حتى أتشجع وأدخل الحزب، وأشعر بالأمان بوجودهم. لكنه، وبعد أن قلت له إن سلطان أحمد عمر ليس من قريتي ولا أعرفه، راح يكلمني عن الأممية، وكيف إن الحزب الديمقراطي اليمني حزب أممي، وليس حزبًا قرويًّا. وكان كلامه عن الأممية أكبر من فهمي، حتى لقد شعرت بالخجل من جهلي.
وفي النهاية، وقد خبّطنا في شوارع الحديدة، وخيّطناها بخطواتنا شارعًا بعد آخر، تعبت من المشي ومن الكلام، وقلت له:
"كيف تشتيني أدخل حزب وما فيش فيه ناس من قريتي؟!".
قال لي: "أنت اُدخل بس، وبعدما تدخل الحزب باتلقاهم قدّامك مليان، ليش خائف؟!".
قلت له: "مش أنا خائف".
ودخلت الحزب، لكني لم أدخله لأثبت بأنني شجاع، وإنما دخلته محرجًا. فالرجل كان قد عزمني على عشاء، وكان مثقفًا ومؤدبًا، ولو أني رفضت لا اعتبرني قليل حياء، ولربما زعل مني وقاطعني.
وبعد أن أعلنت موافقتي، مر على بيت رفيق له وطرق الباب، وخرج شخص أسمر طويل عريض، اسمه أحمد الزرنوقي، من قبيلة "الزرانيق"، ودعانا إلى الدخول.
وفي الداخل، سلّمني الشاب الذي كسبني للزرنوقي أحمد، وبعد أن سلّمني له، غادر وتركني في بيت الرجل الذي لا أعرفه، ولحظتها شعرت بالرُّعب.