مقالات
إذاعة تعز.. عودة الوعي إلى أرضه
عودة إذاعة تعز حدثٌ يُشبه رجوع النبض لقلبٍ توقّف طويلًا، عودة الوطن على هيئة صوت.
صوتٌ يعرفك، يشبهك، ويُحادثك بلغتك. في الواقع المليء الضجيج الخاوي، تعود الإذاعة لكأنها تقول؛ ما زال هناك ما يستحق أن يُقال، وما زال هناك من يصغي.
فالإذاعة هي شريانٌ من الوعي، نبضٌ اجتماعي، وذاكرة جمعية تُخاطب الناس بلغتهم، وتلامس همومهم، وتبث فيهم شيئًا من الحياة كل صباح.
حين تعود الإذاعة، يعود جزء من الوطن كان مفقودًا، وتعود معه الأصوات التي كنا نظن أنها غابت إلى الأبد.
في هذه السنوات كنت أراقب بخوف كيف تمددت الإذاعات التابعة للحوثي إلى مناطق كان يُفترض أنها محررة.
وهذا الأمر ليس صدفة، ولا عابرًا.
وليست المسألة تقنية تتعلق بالبث والتغطية، وإنما خطة ممنهجة لاختراق العقول قبل الحدود، وغزو الوعي قبل الأرض.
الحوثيين يبثون رسائلهم في المساحات التي هجرها إعلام الدولة، وتسللوا إلى أذهان الناس دون مقاومة تُذكر.
هذا الاختراق الناعم أخطر بكثير من أي معركة عسكرية، لأنه يزرع الأيديولوجيا في عقول الناس وهم يظنون أنهم يستمعون إلى أخبار الطقس أو أناشيد صباحية بريئة.
الحرب الحقيقية التي نخوضها اليوم مع الحوثي ليست فقط على الجبهات ولا في متاريس السياسة؛ إنها في العمق، في العقول، في ما يُبث، وفي ما يُقال، وفي من يملأ الفراغ الإعلامي.
الحوثي يدرك هذا جيدًا، ويُجيد استخدام أدواته.
يُراهن على البث الإذاعي ليصل إلى كل بيت، إلى كل قرية، إلى كل أذن لا تزال تُنصت، وخاصة في الأرياف التي لم تُغمرها بعد صخب الشاشات، حيث الراديو لا يزال هو الحاضر الأوفى، والصوت الأصدق.
هناك، في تلك البقاع المنسية، تُخاض معركة الوعي يوميًا، ومعظمنا لا يدري.
تُعد الإذاعة، في اليمن، رفيق الأرواح في الريف، صديقة الكهول، نداء الصباحات الباكرة، المعلّم الأول، ووسيلة التنوير التي تسبق التعليم النظامي في كثير من القرى النائية.
حين تصل الإذاعة إلى تلك الأرياف، فإنها تصل إلى لبّ المعركة، إلى المناطق التي لم يمسّها خطاب الدولة، حيث لا صحيفة تُقرأ، ولا شاشة تُرى، هناك فقط الصوت، ذلك الذي يهمس في الأذان، ويعيد تشكيل الذاكرة.
وعودة إذاعة تعز ليست فقط عودة صوت، إنها عودة جبهة، عودة سلاحٍ لا يُرى، لكنه يخترق، يوقظ، ويعيد ترتيب الوعي العام. هي خطوة في معركة مصيرية عنوانها من يملأ الأثير، من يُمسك بزمام السرد، من يحدد للمستمع ما يسمعه، وما يؤمن به، وما يعاديه.
كل تردد إذاعي غير محسوب هو مساحة محتلة، كل دقيقة بثّ تُترك للعدو هي انتكاسة غير مرئية، وكل صوت يُستعاد هو قطعة من الأرض الرمزية تُحرر دون دم، دون صراخ، لكنها لا تقل شرفًا عن أي نصر ميداني.
وأيضًا تعد عودة الإذاعة استعادة لموقعٍ استراتيجي في معركة الوعي. خطوة في طريق طويل، لكنها خطوة وازنة، مشبعة بالمعنى، ملأى بالأمل.
ووراء هذه العودة، يقف رجلٌ واحدٌ استطاع أن يجعل من الحلم مشروعًا، ومن المشروع واقعًا.
الصحفي أحمد شوقي أحمد، الذي لا يتعامل مع الإعلام كمهنة فحسب، بل كرسالة، كقضية شخصية، كوطنٍ صغير يحمله في قلبه ويقاتل من أجله كل يوم.
كلما التقيت به، شعرت أنني لا أحتاج إلى شرح كثير، فهو يعرف ما أفكر به قبل أن أقوله، ويشبهني في القلق، في الحلم، في الإصرار على أن الإعلام ضرورة وجودية.
كنتُ أحلم بوجود إذاعة حرة، ناطقة باسم تعز، تعبّر عن وجعها اليومي، وتحتضن صوت ناسها، وتروي حكاياتها المنسية.
ووجدت أن أحمد شوقي يعمل بصمتٍ ومثابرة لتحقيق هذا الحلم، كما لو كان يحمل بين يديه تعز كلها، بكل ما فيها من نبضٍ ووجعٍ وأمل.