مقالات
اغتيال الفكرة: ماذا لو سقط عبدالملك الحوثي؟
الاستخبارات هي السلاح الحاسم في الحروب الحديثة، لا الصواريخ وحدها ولا كثافة النيران. وإسرائيل، كما هو معروف، تملك تفوقًا استخباراتيًا هائلًا، يوازي قوتها العسكرية وربما يتجاوزها. لكن مأزق إسرائيل الأكبر ليس في مواجهة جيوش نظامية، إن مأزقها يكمن في حربها مع الجماعات اللامركزية، "العصابات"، التي لا تخضع لمنطق الدولة.
التفوق الاستخباراتي هذا يواجه تحديًا مختلفًا حين تكون الحرب ضد تشكيلات غير نظامية، ضد جماعات لا تشبه الدول ولا تخضع لقوانين الحرب التقليدية. تلك الكيانات المرنة، الهلامية، التي تنمو في الهامش، وتتكيف مع الضغط كما تتكيف الفيروسات مع المضادات. جماعة الحوثي واحدة من تلك التشكيلات التي تعيش على الأطراف، وتتغذى من الخراب، وتزدهر في الفراغات التي تتركها الدول.
في هذا السياق، لا تكمن نقطة ضعف الحوثيين في عتادهم العسكري، ولا في خطوط إمدادهم، ولا في بنية تنظيمهم المليشياوي، بل في مركز ثقلهم الروحي والعقائدي: عبدالملك الحوثي. هو في وعي الجماعة، الصورة المطلقة، والتجسيد الأرضي لفكرة سماوية، إنه بمنظورهم الرابط المقدس بين العقيدة والحرب. وقد نجح هذا الوغد في ترسيخ موقعه هذا عبر سنوات طويلة من الغياب العلني، والظهور المدروس، والخطاب الماورائي الذي لا يناقش ولا يُمس.
إنه الوعاء الذي صُبّت فيه كل خرافاتهم، ومصدر الإلهام الذي يمنحهم شرعية الاستمرار مهما بلغت الكلفة. ولهذا، فإن بقاءه يمثل عندهم بقاء القضية، واستمراره يعني استمرار الحلم، مهما تهدمت المدن وسُحقت الجبهات. إنهم مستعدون للتضحية بكل شيء، المال، الرجال، الأرض، حتى الأطفال، في سبيل أن يظل هو في موقعه، يطل من شاشة مظلمة ليرسم ملامح الطريق، ككاهن طقوسي يبارك الدماء.
ومن هنا، فإن تصفيته لن تكون مجرد ضربة لرأس التنظيم، بل ضربة للبنية العقائدية بكاملها، ضربة للرمز الذي تتشظى حوله الجماعة. ستكون لحظة فراغ مرعب، صدمة روحية لا تملك الجماعة أدوات تجاوزها. فقد تم بناء كل شيء حوله، وكل خطابهم العقائدي قائم على فكرة أنه استثناء إلهي، محصّن من الهزيمة، محفوظ من الزوال. حين يسقط، يسقط معه الوهم، وتبدأ التشققات بالتسلل إلى الداخل، لتفكك ما بدا في الظاهر كتلة صلبة.
إن المعركة في جوهرها لم تعد مع جماعة مسلحة فحسب، إنها مع سردية دينية سياسية قائمة على التقديس، وتغذية الجماهير بالخرافة، واحتكار التمثيل الإلهي. واستمرار عبدالملك الحوثي على قيد الحياة يعني بقاء تلك السردية قائمة، مهما كان الواقع يهتز من حولها. لهذا، فإن تصفيته لا تكمن في كونها نهاية رجل فقط؛ وإنما بداية انهيار بنية رمزية كاملة، تشكّلت على مدى عقدين من الزمن. وعندها، الخلاص من هذه الجماعة لا يحتاج إلى خوض حرب طويلة؛ فالجماعة ستبدأ في التآكل من الداخل، مثل بناء انُتزعت منه روحه، وترك يتداعى في صمت.
صحيح أن جماعة الحوثي تمتلك بنية تنظيمية، وقدرة على الترميم، كما يمتلك غيرها من الجماعات المسلحة، لكن المقارنة بين مقتل حسين الحوثي وبين أي سيناريو مشابه يطال عبدالملك الحوثي ليست دقيقة، لأن المعادلة تغيرت كليًا من حيث:
الظرف البنيوي للجماعة، حسين قُتل في وقت كانت فيه الجماعة أشبه بجنين لم يكتمل. لم تكن تحكم، ولم تكن تدير مؤسسات دولة، ولم يكن لديها اقتصاد حرب أو شبكات مصالح معقدة أو تحالفات خارجية قوية. أما اليوم، فقد تحولت إلى كيان سلطوي مركب، يقوم على توازنات دقيقة بين مراكز قوى اقتصادية، أمنية، دينية، وتحالفات خارجية (خصوصًا مع إيران). هذه التوازنات كلها يديرها شخص واحد عبدالملك الحوثي. تصفيته تعني ضربة لقلب المنظومة لا لرأسها فقط، لأن منظومة المصالح هذه مرتبطة بشخصه كضامن لها.
أيضًا طبيعة الرمز:حين قُتل حسين، كان البديل سهلًا لأن الجماعة ما تزال في طور النشوء، والرمزية العقائدية لم تكن متجذرة كما هي اليوم. أما عبدالملك، فقد بنى خلال عقدين سردية عقائدية كاملة حول شخصه: أنه "المحفوظ"، "المهدي"، "المعصوم من الهزيمة"، الذي ترتبط به فكرة البقاء. هذه الرمزية صارت جزءًا من بنية الجماعة النفسية والدينية والسياسية، ولهذا فإن غيابه سيُحدث صدمة روحية، وفراغًا لا يُملأ بسهولة بمجرد صناعة رمز جديد.
أيضًا إعادة إنتاج الرمز ليست وصفة جاهزة؛ قد تبدو فكرة صناعة رمز جديد ممكنة نظريًا، لكنها عمليًا محفوفة بالمخاطر، لأن أي بديل سيواجه أزمة قبول داخلية بين مراكز القوى، وصراع خفي على النفوذ، خاصة أن الجماعة تحولت إلى شبكة مصالح معقدة وليس مجرد حركة عقائدية. والأمثلة من التاريخ كثيرة: اغتيال الرمز في ذروة احتكار السلطة يؤدي غالبًا إلى اهتزاز الكيان كله (كما حدث مع بعض التنظيمات الثورية أو المليشياوية حين غاب زعيمها المركزي)
الرمز هو الضامن لاستمرار السردية: الجماعة الآن تعيش على تغذية الوهم بقدسية القائد. تصفيته تعني ضرب هذه القدسية، وفتح الباب لتساؤلات داخلية خطيرة كيف قُتل؟ أين وعود الحماية الإلهية؟ هل كان حقًا استثناءً مقدسًا؟ هذه التساؤلات هي الشرخ الأول في جدار صلب ظاهريًا لكنه هش داخليًا.
جماعة الحوثي تقوم على تنظيم رأسي صارم، لا يعتمد على البنى الأفقية المعهودة في الأنظمة الكلاسيكية. تُبنى سلطتها على مركزية مطلقة يتحكم بها عبدالملك الحوثي، الذي يمثل مرجعية عليا تُحال إليها كل الخلافات بين أجهزة الجماعة. قراره نافذ، وصوته يحسم، ما يجعل من شخصه محور استقرار مؤقت للجماعة.
رغم هذه المركزية، تمتلك الجماعة أجهزة أمنية متعددة، منها الأمن الوقائي، والاستخبارات العسكرية، وجهاز الأمن والمخابرات، وهي كيانات تعمل في مسارات متشابكة. التنسيق بينها ليس دائمًا سليمًا، إذ تشهد تنازعًا خفيًا على النفوذ والمعلومة، تُدار هذه الخلافات داخل غرف مغلقة وتُرفع مباشرة إلى مكتب "السيد"، حيث يُتخذ القرار النهائي ويحظى بامتثال تام.
هذا النموذج في الحكم يخفي داخله قابلية عالية للانفجار. فحينما يُبنى التنظيم على شخص واحد، دون مؤسسات واضحة أو آليات انتقال سلطة، فإن أي غياب لهذا الشخص يُنذر بانهيار داخلي. الصراعات الكامنة بين الأجهزة الأمنية ستطفو إلى السطح، والتنافس الصامت سيتحول إلى صراع معلن، ما إن تغيب اليد التي تضبط الإيقاع.
غياب عبدالملك الحوثي، لأي سبب كان، سيفتح المجال لانشقاقات حادة داخل بنية الجماعة، إذ لا يوجد بديل يحظى بإجماع مماثل، ولا توجد آلية واضحة لترتيب بيت الطاعة، مما يجعل الاحتمال واردًا لصدامات دامية بين الأجنحة المتنازعة.
هذا الاحتمال لا يعكس ضعفًا طارئًا، إنما يُظهر مدى هشاشة البنية التنظيمية التي تعتمد على الخضوع لسلطة فرد، دون أن تبني منظومة تعايش أو إدارة خلاف. وكل تنظيم يقوم على هذا النوع من التمركز الحاد، يكون مصيره التفكك ما إن يغيب الرأس الذي يُمسك بالخيوط.
الخلاصة:
المعركة مع الحوثي ليست عسكرية فقط، إنها معركة ضد سردية دينية سياسية تُقدّس الزعيم وتحتكر السماء. واغتيال الرمز، في هذه الحالة، لا يعني فقط كسر الرأس؛ بل تفجير الأساس.