مقالات
الأدهل وإنقاذ أمير الريف المغربي
يعتبر عبده حسين الأدهل، أحد كبار تجار مدينة عدن، ورجالها المعروفين، والمنخرطين في العمل السياسي في النصف الأول من القرن العشرين، هو صاحب الدور الرئيسي في عملية انقاذ بطل المقاومة المغربية الأمير عبدالكريم الخطابي، من قبضة الاحتلال الفرنسي في مايو من عام 1947م، وذلك بحسب ما أكدته مذكرات المجاهد الفلسطيني محمد علي الطاهر الصادرة في مصر عام 1951، والذي كان أحد من ساعدوا في نجاح العملية، وكما ورد في مذكرات الأدهل التي تطرقت إلى تفاصيل الحادثة.
ويبدو أن الأمر التبس على المؤرخ والشاعر أحمد الشامي في مذكراته التي صدرت طبعتها الأولى عام 1984م بعنوان "رياح التغيير في اليمن"، حين أرجع الفضل في عملية انقاذ أمير الريف المغربي، إلى الشيخ أحمد سعيد الأصنج أحد رواد التنوير في اليمن، بينما كان عبده حسين أدهل، هو البطل الحقيقي، وصاحب المبادرة التي انقذت بطل المقاومة المغربية.
وقد أكد الشامي في مذكراته، بأنه استقى تلك المعلومة، من الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر، وذلك في نقاش جرى بينهما، وكانت خاتمته بعد حديث طويل "ولقد قال لي الاستاذ محمد علي الطاهر قبل وفاته ببضعة أشهر سنة 1975/1394ه، أتدري من الذي انقذ بطل الريف من حبس الفرنساويين؟ قلت: لا. قال: إنه الاستاذ أحمد سعيد الأصنج، وروى القصة..." [أحمد محمد الشامي رياح التغيير في اليمن ص141]، في الفقرة السابقة يوجد عدد من الهفوات، والزلات، والأوهام التي وقع فيها المؤرخ الشامي، ونستبعد أن يكون التدليس هو سبب ذلك، بل استناده على الذاكرة في استرجاع أحداث النقاش مع الطاهر، الأمر الذي أوقعه في الزلل.
من الاخطاء التي وردت في رواية الشامي، بخصوص عملية الانقاذ، قوله بأن النقاش دار بينه وبين الطاهر عام 1975م، بينما الأخير توفي ببيروت في أغسطس 1974م. والخطأ الثاني تأكيده بأن الطاهر أخبره بأن الاستاذ الأصنج هو صاحب الدور الرئيسي في عملية الانقاذ. وهذا أمر مستبعد على الصحفي والمناضل الفلسطيني، لأنه بذلك يناقض نفسه، فقد تطرق للعملية، ولدوره فيها بالكثير من الفخر والاعتزاز في مذكراته المعنونة بـ" ظلام السجن"، التي صدرت عام 1951م في مصر، وطبعت هناك بدار إحياء الكتب العربية، حيث قال: " وآخر ما أفخر به وهو من توفيق الله أنني في يوم ٢٣ مايو ١٩٤٧ تلقيت برقية من السيد عبده حسين الأدهل من فضلاء بلدة الشيخ عثمان بجوار عـدن ، يقول فيها إن "الأمير عبد الكريم الخطابي مجاهد الريف الشهير قد غادر عـدن على الباخرة كاتومبا" [محمد علي الطاهر ظلام السجن ص871]، وقد نشر صورة البرقية التي وصلته من الأدهل في ذات الصفحة. وكان من الأولى على المؤرخ أحمد محمد الشامي، وهو الباحث المدقق أن يعود إلى مذكرات الطاهر ليتأكد من صحة الواقعة، خصوصا، وأن مذكرات الطاهر صدرت قبل مذكراته بثلاثة عقود، ولو عاد إليها لما زل به قلمه.
والقصة كما جرت، بحسب ما تحدث عنها بطلها الأول، والمحرك الأساسي لها الاستاذ عبده حسين الأدهل، في مذكراته، بأنه "في 22/5/1947م أرست الباخرة (كاتومبا) ، في ميناء عدن للتزود بالوقود تحمل العلم الاسترالي وعلى ظهرها الأمير عبد الكريم الخطابي مفجر ثورة الريف في المغرب العربي ضد الوجود الإسباني والفرنسي" [عبده حسين أدهل الاستقلال الضائع ص177]، وقد وصلت السفينة دون أن يعلم أحد بأن الأمير وعائلته كانوا على متنها، وكانت الصدفة هي من قادت الأدهل لمعرفة وجود البطل المغربي، حيث "شاءت الأقدار أن ألتقي بأولاده في شارع الزعفران بمدينة عـدن، قابلتهم باعتبارهم أشقاء من الأخوة العرب يزورون مدينة عدن، دعوتهم لضيافتي في مطعم (صالح حاجب)، وكان الوقت عصراً، وخلال حديثي معهم للتعرف على شخصياتهم أجابني أكبرهم سناً أنه ابناً للأمير عبد الكريم الخطابي... كررت سؤالي مستفسراً: بطل الريف المغربي؟! أجاب بالإيجاب" [الاستقلال الضائع مصدر سابق ص178] وبمجرد معرفة الأدهل بالخبر، عبّر لأولاد الأمير، عن رغبته في لقاء والدهم، و" استعجلت عليهم بالذهاب إلى الباخرة لمقابلة الأمير، وفي الباخرة قابلت الأمير وسلّمت عليه ورحبت به باسم اليمن، وباسم الشعب اليمني طلبت منه أن يشرف المدينة بضيافته لها مع أفراد أسرته" [المصدر السابق نفس الصفحة]. وقد تردد بطل المقاومة بادئ الأمر في قبول الدعوة، لكنه وافق بعد الإلحاح من صاحبها، فبادر الأدهل بالتواصل مع كبار الشخصيات اليمنية الموجودة في عدن يخبرهم بوجود الأمير في المدينة واستضافته له، وحول ذلك يقول: "في صباح اليوم التالي اتصلت هاتفياً بوجهاء اليمن بشطريه أخبرتهم بوجود الأمير على الباخرة، وفي مقدمتهم أبو الأحرار القاضي/ محمد محمود الزبيري، والشيخ الأستاذ/ أحمد محمد نعمان، والأستاذ/ محمد علي إبراهيم لقمان، والأستاذ/ أحمد محمد سعيد الأصنج، وفي أحد فنادق عدن أقمت على شرف الأمير مأدبة غداء حضرها وجهاء وأعيان اليمن من الشطرين، وقد ضاق الفندق والشوارع المجاورة له بحشود المحتفين بالأمير عندما علموا بوجوده في عدن، كما رافق موكبه العديد من سيارات المواطنين خلال تجواله لمشاهدة معالم المدينة" [المصدر السابق ص178، 179].
وخلال ذلك، رتب الأدهل - وبحسب ما أورده في مذكراته- مع الأمير بصورة سرية، عملية انقاذه بمجرد وصوله إلى مصر، فيقول "واتفقت مع الأمير أن أقوم بترتيب نزوله أرض الكنانة والتجائه إلى الملك فاروق – ملك مصر يومذاك – ولم نفش هذا السر إلى أحد ممن حولنا" [المصدر السابق ص 179] بحيث يقوم الأدهل بالتواصل مع بعض القيادات العربية في القاهرة، يخبرهم عند مغادرة السفينة التي تقل الخطابي، وموعد وصولها إلى السويس، وهناك يتم العمل على انقاذه.
كان الاستاذ محمد علي الطاهر أحد من راسلهم حول الأمر، وهذا كان على علاقة وطيدة وكبيرة برجال الحركة الوطنية اليمنية، سواء من شمال الوطن أو جنوبه، وبوصول برقية الأدهل من عدن، سارع الطاهر بإرسال برقية إلى الملك فاروق، وكان نصها كالتالي "جلالة مولانا الملك المعظم "وردتني برقية من عـدن بأنه قد مرّ بها الأمير محمد عبدالكريم الخطابي أمير الريف بمراكش وأسير فرنسا بجزيرة ريونيون منذ عشرين سنة. وهو بطريقه لمنفاه الجديد بجنوب فرنسا، وستصل به الباخرة "كاتومبا" غداً الثلاثاء للسويس، وإنقاذه معلّق بإشارة كريمة من جلالتكم بدعـوته للنزول، ولا سُـلطة لفرنسا عليه سوى سلطة الخاطف على المخطوف. فهو ليس بفرنساوي، وما دامت الباخرة في مياهنا فهي تحت سلطة محافظ السويس قانوناً. إن مكارم جلالتكم التاريخية بنظر العالم الإسلامي هي التي أوحت إلي برفع هذا الحادث لمقامكم السامي مع الدعاء بحفظ الذات العلـيـة " التوقيع : محمدعلي الطاهر - رئيس اللجنة الفلسطينية بمصر" [محمد علي الطاهر ظلام السجن ص872]، وقد قامت الحكومة المصرية آنذاك بتدبير خطة لاستخلاص الخطابي من قبضة المحتل الفرنسي الذي كان يسعى إلى سجنه في جنوب فرنسا، ولولا مبادرة الأدهل لما جرى انقاذ البطل المغربي.