مقالات
الإمامة والقبائل.. ملاحظات عابرة
لم يمنح اليمنيون دعمهم لدعاة الإمامة إلا عند غياب القوى الاجتماعية المؤثرة في الساحة، وكذلك غياب المنافس صاحب المشروع السياسي.
كما أن صعود الإمامة في أعالي الشمال، كان يأتي عقب غياب الدولة أو ضعفها، وفي الوقت الذي كانت القبيلة، والقوى المحلية الأخرى قد ضعفت هي ايضا بسبب التفافها حول الدولة القائمة، كما كان الحال بعد ضعف الدولة الصليحية ـ والرسولية ـ والطاهرية. وقد كانت الإمامة في اليمن أكثر امكانية من غيرها من القوى اليمنية في الظهور والبروز على المسرح السياسي، وذلك عائد إلى هجر العلم التي انشأت وحافظت على بقاء "معتقداتهم أكثر تحصيناً من أي جهاز من أجهزة الدولة. لقد كان بإمكان جهازهم التعليمي الخاص اعادة أنتاج نفسه، إذا اقتضى الأمر، من بضعة مراكز متناثرة هنا وهناك". كما يقول بول درش .
ويؤكد هذا قول القاضي إسماعيل الأكوع بأن "جميع الأئمة خرجوا من هذه الهجر". وما إن تظهر الإمامة على مسرح الأحداث ويبدأ الطامحون في الصراع على منصب الإمام، حتى تعود القبيلة مجدداً للظهور، ويبرز المشائخ للإمساك "بمفتاح التوازن بين المتنافسين على الإمامة، وكانوا كثيرين حينئذٍ، فازدهر المشائخ تبعاً لذلك "بول درش.
فضعف القبيلة والقوى المحلية، بسبب التفافها حول الدولة، أو أي سلطة قائمة، كان يعزز من حظوظ الإمامة، في الظهور على المسرح، وبينما كان اليمنيون يقاتلون جيوش القوات القادمة من الخارج كالأيوبيين، والمماليك، ثم العثمانيين، كانت الإمامة تستعد لقطف ثمار المقاومة اليمنية كما فعل شرف الدين في تآمره مع المماليك ضد الدولة الطاهرية.
وهنا نجد أن ما يفسر ظهور قوة الإمامة على الساحة، كانت أسباب ضاغطة منها مجيء القوى الخارجية التي تدعي تمثيل الخلافة الإسلامية، كما حصل عند سيطرة العثمانيين في الدور الأول من وصولهم اليمن في القرن السادس عشر الميلادي، حيث اضطر اليمنيون آنذاك بعد خلو الساحة اليمنية من القوى المحلية المؤثرة التي طحنتها الحروب، أن يلتفوا خلف راية الإمام القاسم، خصوصاً أن العثمانيين كانوا يعدون أنفسهم ورثة الخلافة، وأصحاب شرعية دينية. فآثر اليمنيون الإمام القاسم على الخليفة القادم من الأناضول.
وبعد خروج الأتراك واستتباب الأمر للإمام المتوكل على الله اسماعيل، هدأت اليمن فترة أربعة عقود، سرعان ما عادت الأوضاع سيرتها الأولى، حيث يقول الباحث همدان علي محسن مختتماً رسالته للماجستير أن الأئمة القاسميون، الذين أتوا بعد ذلك " كانوا يلجأون إلى استخدام الأساليب والوسائل العرفية للوصول إلى الحكم فقام بعضهم " بذبح العقائر" لطلب نصرة القبائل في ايصاله إلى الحكم وطلب آخر نصرة القبائل في الأخذ بثأره عبر وسيلة " النكف" واستخدام ثالث عُرف الاستجارة لتوفير الحماية والنصرة له، وهكذا".
وكاد اليمنيون أن يقضوا على نظام الإمامة في القرن الثامن عشر، لولا مداهمة الأتراك لليمن حينها، وقد تم ذلك بتعاون وتحالف مع بعض الأئمة الطامعين في السلطة، والذي اضطر اليمنيين مرَّة أخرى على أن يتغافلوا عنه، ولنفس المبررات السالفة، وأن يوحدوا جهودهم في مقاومة الأتراك، الذين غاب تأثيرهم السياسي بعد الحرب العالمية الأولى. ولم تمض عقود خمسة، حتى تمكن اليمنيون فيها من استعادة أنفاسهم بعد أن سطروا ملاحم التصدي للقوى الخارجية، حتى عادوا للعابث الداخلي واجتثوه في سبتمبر 1962م .
وقد كان لامتلاك الإمامة المشروع السياسي وافتقاد بقية القوى اليمنية لمشروع مواز، أو مواجه، هو العامل المؤثر في بقائها وعدم اندثارها وزوالها كبقية "الدول" أو الدويلات من يعفرية، وزيادية، ورسولية، وطاهرية، وكثيرية، وعبدلية ...الخ، ولولا الغموض الذي كان يلف المذهب الاسماعيلي لاستمرت الدولة الصليحية وحطمت الزيدية. وحين امتلك اليمنيون المشروع الجمهوري تحقق النصر في ثورة سبتمبر.