مقالات
البردوني والصباح الأخير مع أبويه!
سيرة البردوني تحتاج تحقيقا أكاديميا، فقد تبيَّن لنا أن طُبعة تركيا تقترب من ملامسة الحقيقة والكمال إلى حدٍ ما، أما طبعة "دار عناوين" فهي مليئة بالأخطاء الفادحة للأسف الشديد، ليس ذلك من دار النشر؛ وإنما من حيدر غيلان الذي قام بجمع ما استطاع جمعه، ولم يمحِّص أو يصحح بشكل دقيق، رغم أنه يعتبر مدرسا أكاديميا، وكان ينبغي ألا يفوت عليه مثل ذلك، أما كتابته للمقدِّمة فلم يضف شيئاً إلى السيرة بل أخذ منها، إضافة إلى أن مصادرة تلك الطبعة الأولى في صنعاء كانت بسبب الأخطاء الفادحة أولاً وقبل كل شيء.
وهنا نختم الموضوع بموقف حزين ومبكٍ في حياة البردوني، أثَّر على شخصيَّته بشكل جذري، وهو ما حدث بينه وبين أبيه وأمه بعد أن انقطع عنهما عشرين عاما من مرحلة اليفاعة، حيث التقاهما ليومين عام 1954م في قرية المحلة بذمار، حيث كانت أخته ظبية متزوجة هناك، انقطع بعدها عن أبيه إلى أن مات، ثم ماتت أمه عام 1957م، والجميع يعلم أن البردوني من مواليد 1929م، ثم فارقهما إلى نهاية رحلته وآخر عمره في 30 أغسطس عام 1999م
فما أقسى ما حدث!!
أما أمه فقد رثاها بقصيدة من عيون الشعر العربي الحديث "أحس هذي الأيام تراخياً حيث كان التشدُّد، نلتقي كل يوم هنا لقراءة الكتب الأدبية والسياسية المعاصرة، بدون أن نلفت إلينا الاستخباريين عن معرفة استصدار الأمر والمواظبة على وقت محدد.
وهنا قال صوت رخيم من خلف الشباك: هذا عين الصواب، صحبة مقيل وسمر والناس للناس.
وبعد أيام عرفت ذات الصوت في جلسة غداء، قال محمد بن الحسين جاءوا (سيدي البدر) للسلام عليك ـ وكانوا يكنون بأسماء رجالية على حريم القصر، لأن هذا واجب للعلماء، ولأنه تكريم للعلم، ولا أدعي أني استجملت الفكرة بل استجملت الجمال، فسيدي البدر كان محبوباً عند جميع أفراد العوائل، لأن أباها مات غرقاً في عام 1932م، وهي طفلة تلعب بالرمل، وكأن آخر ما قاله محمد البدر الأول (فافا) يريد أن يسأل عن ابنته (فاطمة)، فانقطعت أنفاسه، قبل أن يكمل حروف اسم ابنته، ومرّت أيام أو أسبوعان فحدث ما أرجو، لأن الإمام أحمد التقى بالملك سعود عند زيارته اليمن في صنعاء، وبعد يومين سألني محمد بن الحسين: هل تريد أن تقابل الامام؟
قلتُ: نعم، غداً، إذا بلغت القصيدة الختام، وبلغت ختامها بلوغي الوصول إلى الأمام.
وقيل لي ادخل هذا البرج، أو الكشك، ومدوا مُكبِّر الصوت إليَّ، وكنت أعرف وقعَ القصيدة بما ران على القاعة من الصمت، وعرفتُ أن هناك جمهوراً تفجَّر بالتصفيق والإعادة عند هذا البيت:
في كل جارحةٍ بجسمك مالكٌ ... يرمي على زُمر العُداة جَهنَّما
وعند انتهاء الإنشاد، أردت الخروج فانكب محمد بن الحسين على وجهي وصدري تقبيلاً: لأني لم أشر إلى الملك سعود، ولم أبالغ في إطراء الإمام، ولأن الأمير صادق كان يحب صدق القول والعمل ويكره البهرجة والانتفاخ، عرفتُ هذا من حسن توديعه إياي إلى أسفل الدرج، وعند باب السور دعا رجل لطيف موثوق به، (حسين مقبل)، وقال: احمل عنه هذه عند خروجكما من السيارة، ودخلت كوخي محملاً كيساً من القش يحتوي على ألف ريال "ماريا تريزا"، لأني بعد أن ارتويت نوماً قمت قبل الفجر بساعة فأحسنتُ إغلاق الباب، وعدَّيتُ الريالات فوجدتُها زائدة على الألف بثلاثة ريالات.
وبعد يومين عرفتُ أن ذلك الكيس يسمى "خيشة"، وأن محتواها لا يزيد عن ألف ولا ينقص، ثم مرَّتْ الجمعة والتقيت بالأميرين ضحوة السبت، فقال محمد بن الحسين: يبدو لي وجهك قلقاً، قل لي ماذا تريد وسوف يُنَّفذْ؟!
قلتُ: انقطعت عن أهلي قرابة عشرين عاماً مليئة بالكوارث والسجون، قال: هل تريد زيارتهم؟ قلت: وكيف يتم هذا وأنا موقوف بصنعاء جبراً؟
قال: لست مجبراً من أحد، وليس عليك أمر إلاَّ من الإمام، لأن وجود الإمام بصنعاء يلغي إنابة الحسن.
قلت: أريد أن أدفع إلى أبوي نصف المبلغ،.
قال ابن الحسين: هذا عبدالله جعوان قائد سيارتي سوف يوصلك حيث تريد، وهذي مئة ريال، لما احتجتما أو احتاجت السيارة.
وفي اليوم الثاني ركبتُ السيارة إلى محطة معبر، وبعد الغداء، وشيء من القات، اتجهنا إلى ذمار، وحددتُ في ذهني (حمود الأبيض)، الذي يعرف قريتنا بيتاً بيتاً، وسأطلب منه أن يستأجر حمارين لأبي وأمي متعاقباً مع أبي على ظهر الحمار. وفي اليوم الثاني التقينا في قرية (المحلَّة)، حيث أختي (ظبية) مزوجة بردوني يسكن فيها. وغمرني بالبهجة تصور فرحة أمي بهذه المئات من الريالات، وذكرت أني يوم انتقلت من سجن ذمار إلى سجن بصنعاء أعطيت والدتي ووالدي خمسة عشر ريالاً، وبدلاً من الفرحة انفجرت أمي باكيةً، قائلة: هذه الخمستعش بعد الغيبة كلها، والله إننا يوم زفافك عند وصولك (سورة ياسين) صبينا كعدة النص - وهو مقدار معين من السمن. قلت: إن هذا المبلغ الكبير سوف ينسيها (كعدة النص). وانزعجتُ حينما عدَّيتُ الريالات حين نقصت الخمسمائة خمسين ريالاً، وبعد أن فرغنا من العشاء أغلقنا الباب الخارجي، ووضعت قدام أهلي الخرج وفيه أربعمائة وخمسين ريالاً، وكيس من القشر، وأكبر منه من السكَّر إلى جانب أربعين حزمة من الكراث والبصل..
وفي تلك الليلة فاجأتني ابنة عمي، التي انتقلت إلى المحلة، فانبعث عهد الصبا وفجر الشباب، فدفعت إلى سنبلة بنت عمي عشرين ريالاً، ولأختي، التي استضافتنا، مائة ريال ولفة من القماش، فباتت والدتي ووالدي على جمر الأرق؛ لأني لعبتُ بالفلوس، لهذا أخرجني أبي آخر الضحى إلى خلف سور القرية فاختلى بي، وأول ما بادهني بصفعة عنيفة أسقطت العمامة من رأسي من الجانب الأيمن، وقالت أمي: خبأت الريالات تحت ركبتك، وهات يا صرف لمن راح وجاء، "وكان اللازم أن تسلم إلينا كل ما وصلت به، واليوم معنا ثلاثمائة وستون، وسوف توفي النقص؛ احنا الذين علمناك من جهلك، والله إن احنا صبينا يوم زفافك كعدة النص".
لا تريد كعدة النص أن تتركني وحدي للمواجع.
فقلت لنفسي: لقد صارت هذي الكعدة شوكة من الحديد في قلبي، لا بد لي أن أقتلعها، فقلتُ لوالدي كم كان ثمن كعدة النصف الرطل من السمن؟ قال ما كانت تستوي أحوال السوق، فبعناها بربع ريال وبربع وثمن أحياناً، فقلتُ: هل وصلت إلى النصف الريال، فقال: لا.
فقلتُ: هذا ريال، نصفه ثمن السمن، ونصفه أجر سفرك إلى ذمار، ومنها إلى البردون، واطرح عني هذه الحدبة الأمامية كنهدي بنت الثلاثين.
فبكى بصوت عال، شعرتُ أنه يهز الأرض من تحتي، فقررت الاستبقاء على هذه الشوكة.
وحين إيابي إلى صنعاء بعد يومين، نادتني أمي، هزَّتْ رأسي بقوة قائلة: قم قد احنا في حمية الكلاب. وما إن نهضت حتى قالت: هات الريال الذي رد أبوك، وحين وصلنا الشارع اكتشف أبي اليلق الذي يدفئ صدري، فقال اخلع لي هذا أكون أغطي به ظهري، فجرَّيته من يده، وهمستُ في أذنه: سوف يقول أهل عنس: أَخرجوه إلى الشارع وعَروه من ثيابه، فارتدَّ ممرورَ القلب.
وقلت: خير أهلي أختي ظبية، وكانت كلَّما أحسَّت تقاضي أهلي، دعتني قائلة: خُذْ هذه المائة التي دفعتها لي، ويكفيني أني رأيتك، فأرفض عن إصرار، وقلت: لو زدتهم هذه المائة لظنوها من ألوف، فرجعتُ محملاً غضب الأبوين، لأني لعبت بالدراهم قبال عيونهم،
كان عام 1954م ختام لقائي بأهلي، وكنت من حين إلى حين أبعث إليهم ما أقتدر دفعه، وما أشبه الأيام ببعضها.
فقد توالت القرون تلو القرون دون أن يغيِّر الإنسان نزعة واحدة من نزعاته.