مقالات

التحالف القبلي–السلالي: البنية التاريخية لدوام الاستبداد

14/10/2025, 12:21:56

يُشكّل التاريخ السياسي لليمن مثالاً فريداً على تفاعل الدين بالقبيلة في بناء السلطة وتوارثها. فمنذ أن دخل الإمام الهادي يحيى بن الحسين إلى صعدة أواخر القرن الثالث الهجري، نشأت نواة نظام سياسي ديني استند إلى نظرية “البطنين” التي حصرت الحق في الحكم في سلالة بعينها من نسل الحسن والحسين، واعتبرت الإمامة وظيفة إلهية لا يحق لغيرهم تولّيها.

ومع أن هذا الطرح اتخذ غطاءً دينيًا، إلا أنه في جوهره كان مشروعًا سياسيًا يهدف إلى احتكار السلطة ضمن إطار عائلي ضيق، وهو ما جعل الإمامة منذ بداياتها نظامًا مغلقًا لا يعترف بمفهوم التداول أو المساواة بين المواطنين.

في تلك البيئة الجبلية الوعرة التي يغلِب عليها الطابع القبلي والرعوي، وجد الأئمة في القبائل الحاشدية والهمدانية قوةً عسكرية ضرورية لتثبيت حكمهم، فيما وجد زعماء القبائل في الإمامة مظلة تمنحهم شرعية دينية تبرّر الغزو وتضفي على العصبية القبلية قداسةً جديدة.

وهكذا وُلد تحالف بنيوي بين “السلطة الدينية” و“السلطة القبلية”، تحالف يقوم على تبادل المنفعة لا على المشاركة الحقيقية. كان الإمام يمنح البركة والشرعية، وتمنحه القبيلة الطاعة والسيف، فاستقر نظام مزدوج يقوم على سلالة تحكم، وقبائل تقاتل دون أن تنال من الحكم سوى الفتات.

لكن هذه العلاقة لم تكن ثابتة، بل اتسمت بطابع متقلب تحكمه المصلحة والرهبة. فكلما اشتد عود قبيلة ما، عمد الإمام إلى إثارة أخرى ضدها، ليبقَ هو الحكم والمنتصر في النهاية.

وبهذه السياسة الممنهجة تمكّن الأئمة من تكريس مبدأ “فرّق تسد” قرونًا طويلة قبل أن يعرفه المستعمر الأوروبي، ما حال دون قيام أي وحدة قبلية أو اجتماعية قادرة على بناء دولة متماسكة.

أثمر هذا التحالف عن بنية سلطوية جعلت من الجهل والفقر شرطًا لبقاء النظام. فالمناطق التي كانت مركز نفوذ الإمامة، أي الهضبة الشمالية، ظلت الأكثر تخلفًا في العمران والتعليم والخدمات. لم يكن غياب التنمية صدفة، بل سياسةً مقصودة؛ فكلما ضعف وعي الناس واشتدت حاجتهم، زاد ولاؤهم للإمام.

كانت تلك المناطق تُستنزف في حروب متكررة، يُستدعى أبناؤها للقتال باسم الدين، ثم يُتركون بعد الحرب فقراء، بلا مدارس ولا طرق ولا مؤسسات، وكأن قدرهم أن يكونوا جنودًا في صراعات لا تنتهي.

وحين قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962، بدا أن صفحة جديدة تُفتح في التاريخ اليمني. لكن سرعان ما تبيّن أن التحالف القبلي–السلالي لم يُهزم تمامًا، بل أعاد تشكيل نفسه في النظام الجمهوري الوليد.

فقد تسلّل أبناؤه إلى مفاصل الدولة الجديدة، واستبدلوا شعار “الحق في البطنين” بشعار “الحق في الغلبة”، لتصبح الجمهورية في المضمون استمرارًا للنظام القديم بواجهة حديثة.

ظلّت مراكز القوة السياسية والعسكرية في قبضة النخبة نفسها التي ورثت موقعها من التاريخ الإمامي، وبقيت فكرة المواطنة مساوية للولاء لا للحقّ، فكانت الدولة الحديثة كيانًا هشًّا يخضع للتوازنات لا للقانون.

في العقود الأخيرة، برزت جماعة الحوثي لتعيد إحياء هذا الإرث في صورة جديدة. قدّمت نفسها حركةً تصحيحية داخل المذهب الزيدي، لكنها في الحقيقة أعادت إنتاج الإمامة بآلياتها القديمة ذاتها: حكم السلالة، وتجييش القبائل الفقيرة، وتغذية الشعور بالمظلومية لتبرير الامتياز.

ومن المفارقة أن المناطق التي خرج منها الحوثيون، والتي تُقاتل اليوم تحت رايتهم، هي ذاتها الأكثر فقرًا وتهميشًا، وكأن التاريخ يعيد دورته ولكن في شكل أكثر مأساوية.

لقد أُعيد استدعاء التحالف القبلي–السلالي ذاته، وأُعيد استخدام القبائل كوقود لحروب لا يستفيد منها أحد سوى نخبة صغيرة ترى في استمرار الصراع ضمانًا لاستمرار سلطتها.

هذه البنية التاريخية العميقة تُفسّر عجز اليمن الحديث عن ترسيخ الدولة المدنية، فكل محاولة لبناء دولة عادلة تصطدم بجدار الولاءات القديمة.

ولا يمكن تفكيك هذا الجدار إلا بإعادة تعريف الوطنية ذاتها، لتصبح قائمة على المساواة والمواطنة لا على النسب والمذهب.

فاليمنيون — جميعًا — لم يكونوا شركاء متكافئين في الحكم، بل ضحايا لنسق سلطوي جعل من بعضهم أداةً لقهر البعض الآخر، حتى غدت القبيلة نفسها سجينةً في منظومة توظّفها ولا تمثلها.

إن تجاوز هذا الإرث لا يكون بالانتقام من الماضي، بل بفهمه. فالتحرر الحقيقي يبدأ حين يدرك أبناء الهضبة أنفسهم أنهم أول من دفع ثمن هذا التحالف غير المقدس، وأن تحرّرهم من سلطته هو بداية تحرّر اليمن كله.

ذلك لن يتحقق إلا عبر مشروع وطني يقوم على إعادة بناء الوعي التاريخي، وإصلاح التعليم والخطاب الديني، وتمكين المجتمعات المحلية اقتصاديًا، وبناء مؤسسات دولة عادلة توزّع السلطة والثروة على أساس الكفاءة لا الانتماء.

لقد آن لليمن أن يتحرر من أسر التاريخ لا بطمسه بل بقراءته قراءة جديدة تُعيد للعقل اليمني قدرته على التمييز بين الدين والسياسة، وبين القبيلة والوطن.

فما لم يُفكّك التحالف القبلي–السلالي الذي عطّل نشوء الدولة الحديثة، ستظل كل ثورة تعيد إنتاج خصمها بأسماء جديدة.

إن الدولة المدنية ليست نقيض القبيلة ولا المذهب، بل الإطار الذي يصون الاثنين معًا من التوظيف السياسي، ويعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس المواطنة لا الامتياز.

وحين يدرك اليمنيون — في صعدة كما في عدن — أن كرامتهم واحدة، وأن الاستبداد لا مذهب له، وأن الدم اليمني واحد في كل بقعة من هذه الأرض، حينها فقط يبدأ طريق الخلاص.

مقالات

الاستقرار غير ممكن لليمن!

عندما نضع اليمن في مقارنة تاريخية مع دول الإقليم والعالم، نكتشف حقيقة واحدة: أن هذه البلاد التي كان يُقال عنها إنها السعيدة، أو "اليمن السعيد"، وارتبط هذا الاسم بهذا الركن من جزيرة العرب، إنما كان حلمًا من أحلام التاريخ، وأحلام اليمنيين، وأشبه ما تكون بأحلام اليقظة التي ظلت تسافر لزمن طويل في كتب المؤرخين والرحالة وكتب الجغرافيا والتاريخ.

مقالات

إيران وغزة.. نهاية أم بداية نهاية

سواءْ اتفقنا أو اختلفنا مع ما جرى طوال ساعات يوم أمس الأثنين الـ 13 من شهر أكتوبر/ تشرين أول الجاري، من تبادلٍ للأسرى والمحتجزين بين إسرائيل وحركة حماس، وسط مشاهد مؤلمة ومؤثرة، فإن ما حدث يعني نقطة تحولٍ بالغة الأهمية، رغم كل الصعوبات التي اعترضت سبيل الوصول ألىهذه النتيجة، بل والثمن الباهظ الذي دفعه سكان قطاع غزة وشعوب المنطقة كافة.

مقالات

الانتقالي والتطبيع.. مسار يعيد إنتاج الارتهان وينسف شرعية 14 أكتوبر

منذ انطلاقتها في 14 أكتوبر 1963، رفعت الثورة اليمنية في الجنوب هدفا استراتيجيا واضحا تمثل في انتهاج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، انسجاما مع روح حركات التحرر الوطني التي سعت إلى بناء دول مستقلة القرار، بعيدة عن الاستقطابات الحادة بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.