مقالات
الذاكرة المثقوبة!
من الثورة على جرعة "500 ريال" إلى مسيرة قرآنية مخضَّبة بالدَّم، إلى خيارات إستراتيجية، إلى "نحن في عدوان"، إلى تغييرات جذرية كلامية، وقبل ذلك كان الولاء الوطني، ومن أجل "يمن جديد"، ثم كهرباء بالطاقة النووية، وقطارات موجَّهة بالأكاذيب.
ما أكثر الشعارات، التي ابتلعناها كطُعم لصيد سهل، هو هذا الشعب الطيِّب الجميل الصَّبور الحمول، شعارات عشنا عليها ومازلنا وسنظل، وكذلك تمتطيها أي سلطة لركوب ظهر هذا الشعب، الذي تحدَّبَ من المظالم، التي أثقلته عبر التاريخ.
وتبدو ذاكرة هذا الشعب مثقوبة تماماً، وبلا حدود، وأكثر من ثلاثين مليوناً لا يتعلمون الدرس أباً عن جد، وكأننا ورثنا ذلك بالفطرة، سلسلة طويلة وممتدة من الأكاذيب والوعود تجرُّ بعضها بعضاً، وخيبات لا تنتهي يتجرّعها اليمنيون بروح المُسالم الصابر، الأوَّاب؛ لهولاء الحكام الظلمة.
هناك شيء غريب يسكن العقل اليمني غير مفهوم، وغير واضح على الإطلاق، وهي طريقة تفكير الناس حول الحياة عموماً، وما يتبعها من سياسة وتعليم وصحة وثقافة وطُرق، وغير ذلك كثير، ونظرة كلية عاجزة نحو المستقبل، وماذا يعني؟
قد تكون حياتنا اليوم بائسة، وهي كذلك -بلا شك- بكل المعاني المفهومة وغير المفهومة، ولذلك نجد الكثير من اليمنيين لا يفكّرون بالغد الذي هو مستقبل فلذات أكبادهم وأبنائهم، وهي عادة -على ما يبدو- توارثناها من الأجداد، وها نحن نضحِّي بأجيال قادِمة لمجرد بقائنا صامتين عاجزين عن خلْق حراك يؤدي إلى التغيير الحقيقي مهما بلغت التضحيات، فإنها لن تكون بحجم التضحيات، التي ندفعها اليوم، وسيستمر بدفعها أجيال قادمة.
وبمعنى أوضح، قد تكون فاتورة التغييرات كبيرة، لكنها لا تساوي شيئاً أمام الفاتورة الأغلى، والتكاليف الباهظة، التي ستدفعها الأجيال القادمة، في كل مجالات الحياة، وأمام الحياة نفسها.
هذا الذُّل، الذي يهيمن على كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، يكبر ويتعملق كل يوم وكل ثانية؛ عبودية وإذلال إلى أبعد الحدود، وليس بالضرورة تفصيل المُفصَّل، وتوضيح الموضَّح، فكل شيء أوضح من الشمس في رابعة النهار.
ولسنا كذلك هنا بصدد ضرب أمثلة على سلسلة طويلة من السلوكيات المجنونة وغير المعقولة أو المقبولة، ونراها ليلاً ونهاراً بعيوننا، أو على شاشات التلفاز، وما أكثرها فيما يخص اليمن، وبكل أسف حتى أولئك -الذين كانوا يعتقدون أنفسهم من قادة العمل الثوري في كل الأحزاب تقريباً، أو كنا نعتقدهم كذلك- تحولوا إلى حملان مسالمة، وأكثر وداعة من الخرفان، ولعلَّ "طوق صنعاء" أبرز مثال حي.
حتى منابر المساجد تحوَّلت إلى شاشات تلفزيونية وأخبارية مثل أي قناة صفراء، لم تعد للمنابر حُرمتها، ولا للمساجد قُدسيّتها كأماكن للعبادة، حيث يخرج الكثير من المصلين وهم على يقين أن صلاتهم فاسدة، أو ناقصة، أو غير مقبولة مع هذا الكم الكبير من اللعن والشتم والصراخ الأبله العبثي في أهم لحظات التجلِّي، وقيام المصلي متجهاً نحو ربه، مهما حاولوا تحميلها أبعاداً فلسفية ودينية حسب معتقداتهم، ولو وظفوا لها كل مرتزقة إيران، وكل فلاسفة العالم، فستظل صرخة بلهاء ساذجة وعبثية.
والأكثر غرائبية أن الناس مازالوا يذهبون إلى المساجد، وفي اعتقادهم أنها ستكون أفضل من الجمعة السابقة، وهي بروفة مصغَّرة لاعتقادات الإنسان "المثقوب الذاكرة".
الناس لا يهتمون، أو نعتقد أنهم لا يهتمون، ولكن النّاس في حاجة إلى خطاب موجَّه وقدوة ليدركوا حقيقة ما هم فيه وعليه، وأنهم في أسوأ ايامهم ولياليهم، بل وفي الدرك الأسفل من الخيارات الإستراتيجية والتغييرات الجذرية، والشعارات الزائفة.
يعتقد الناس أنهم كانوا على بُعد خطوات من استلام مرتباتهم كما يتوهمون، ولكن هذه الخطوات تحوَّلت إلى حرب كبرى عالمية، اليمنيون ليسوا مستعدين لها بعد عشر سنوات من التجويع والتجهيل والمرض، بل وأكلت العشر السنوات حياة اليمنيين من الألف إلى الياء، فماذا تبقَّى لليمنيين غير الثقوب السوداء الطائفية والسلالية من هذه المسيرة المدججة بالموت والدّم والدّمار.