مقالات

الرابع عشر من أكتوبر وعد المستقبل

13/10/2025, 10:02:24

يتذكر اليمنيون -بكل الاعتزاز والفخر- مناسبة العيد الثاني والستين من ثورة الرابع عشر من أكتوبر. الفخر والاعتزاز يغمرهما فيض عميم من التعاسة والحزن على ما أصاب اليمن وثورتيها: سبتمبر، وأكتوبر.

في الرابع عشر من أكتوبر عام 1963 تفجرت الثورة المسلحة في جبال ردفان ضد الاستعمار البريطاني. الكفاح السياسي الذي بدأ منذ فجر الأربعينات، وتجلي بصدور صحيفة «فتاة الجزيرة».

كانت الفتاة القابلة التي احتضنت ميلاد الحركة الوطنية القديمة والحديثة؛ فخلال بضعة أعوام وصلت الإصدارات الصحفية في عدن إلى سبعين صحيفة، وبلغت في المهاجر في جنوب شرق آسيا إلى ما يقرب من أربعين صحيفة.

نشأت الحركة النقابية العمالية التي تصدرت النضال السياسي والمطلبي، وازدهر المجتمع المدني، وانتشر التعليم الحديث، ونضال الأحزاب الوطنية والقومية: البعث، وحركة القوميين العرب، والاتحادي الديمقراطي؛ وهي أحزاب يمنية موحدة، والتيار القومي الناصري والإسلامي، ونشاط النوادي، الجمعيات العدنية، ونضال الفتاة العدنية.

تصدرت الصحيفة المشهد، وكانت «فتاة الجزيرة»فِي الطليعة. جرى التعويل كثيرًا على الكفاح المسلح. فقد كان السلاح عاملاً حاسمًا في تحقيق الاستقلال، لكنه لم يكن الوحيد، وليس الأساس. فالمدماك الأساس هي المقاومة المتنوعة والمتعددة.

كان للتيار العارم في حركات التحرر، وللثورات الوطنية التي تغمر العالم أثرها، وكذا دعم المعسكر الاشتراكي، وبالأخص المَدّ القومي العربي، وثورة 1952 في مصر، والنجدة القومية لثورة الـ 26 من سبتمبر داعية بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل من عدن.

مَثَّلتْ ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963 حركة التحرر العربية الثانية بعد الجزائر، وتبوأت مكان الصدارة في حركات التحرر العالمية.

فقد قاد الثورة شباب آتون من جذور عمالية فلاحية، ومن طبقة وسطى، ومثقفين ثوريين ينتمون إلى حركة القوميين العرب.

إنجازات أكتوبر جَسَّدَتْ العمق للثورة اليمنية، وكان نهجها السياسي اليساري متينًا، وإن شابه بعض التطرف. كتاب الدكتور محمد جمال باروت «حركة القوميين العرب: النشأة، التطور، المصائر»، يتناول التجربة القومية بدراسة علمية، ويدرس التجربة في جنوب اليمن وشمالها. يكرس الفصل الثاني من كتابه لدراسة تجربة الجبهة القومية، ويدرس التجربة بإحاطة وشمول.

يعنون مبحثه الفرعي «مِنْ الاستقلال إلى قتل الأب». وقتل الأب صيغة أدبية لتجاوز التلميذ أستاذه والتفوق عليه، ولكنها إسقاط على صراعات الجبهة القومية والحزب الاشتراكي، ولكن ذلكم قتل أدبي، وهذا قتل حقيقي.

يقرأ وراثة الجبهة لجهاز دولة بسيط منخور بالانقسامات: السياسية، والقبلية، والجهوية؛ ومحدود الانتشار والوظائف خارج عدن.

مجموعة سلطنات وإمارات مستقلة دَاخليًّا وجُمركيًّا، لم تعرف السلطة المركزية إلا بشكل محدود في إطار اتحاد الجنوب العربي.

ويرى الوضع الاقتصادي محفوفًا بالمخاطر، يهمين القطاع الخدمي على 80%، و220 ألف فدان مملوكة للأسر السلاطينية بنسبة تتراوح ما بين 70 و80%.

يتناول الباحث خسارة إغلاق قناة السويس الواصلة 75 % من التجارة. ويرى أنَّ المشكلة الاقتصادية الاجتماعية هي أخطر ما واجه الجبهة، ورد ما يسمى باليسار بتحطيم جهاز الدولة القديم.

ويرى أنَّ الجدل بين اليمين واليسار اتخذ طابع الصراع، وتدخلت فيه عوامل قبلية، وجهوية، وتنظيمية وجيلية مركبة. ويشير إلى تجميد العلاقة التنظيمية بين فرع اليمن ومركز بيروت إلا أن التأثير الفكري والسياسي ظَلَّ حاضرًا في صراع اليمين واليسار.

يستشهد بِمَا دار في عدن وحضرموت، وما عرف حينها بالتجربة الحضرمية، وصلتها بظفار، والتنسيق مع نايف حواتمة الذي استقر في عدن لفترة بُغيةَ تفعيل الصراع. والواقع أنَّ تأثير نايف على يسار الجبهة، وتحديدًا «مجموعة الجبل»: مقبل، والبيض، والخامري- قوي. وقد أصدر كتابه «أزمة الثورة في الجنوب اليمني»؛ وهو إنجيل يسار الجبهة القومية، وظل حضور وتأثير نايف قويًّا حتى قتل الأب.

دراسة الباحث باروت عن حركة القوميين العرب مُهِمَّة، وقد اشترك مع الدكتور فيصل دراج في دارسة الأحزاب والحركات اليسارية في الوطن العربي، وصدرت الدراسة في مجلدين؛ وكلا الكتابين صادر عن «المركز العربي للدراسات الاستراتيجية».

في كتابه «دِفَاعًا عن الحرية والإنسان»، وفي عنوان فرعي« في ذكرى الاستقلال الذي ضاع غير مرة » يدرس الدكتور أبو بكر السَّقَّاف الحالة اليمنية حينها، وتحديدًا في 30/ 11/ 2005، ويشيد بإصدار برنامج سياسي مفصل، ويجزم: "نرفض أمر الوقوع بين خيارين: امبريالية الغرب، وفاشيِّة صدام حسين، وكذا الخدمة التي يقدمونها للمطالبين بالديمقراطية الموظفة في أمكنة وأزمنة محددة.

ويرى أنَّنَا تعيش «أزمة وجود»؛ مدللاً بالأزمات المتواصلة. ويرى مُحِقًّا أنَّ الأسماء لا تنطبق على المسميات. فالثورة ليست ثورة، والجمهورية ليست جمهورية، والوحدة ليست وحدة. لا تتطابق الأشياء والكلمات. إنَّها في حالة قطيعة.

ويرى أنَّ حظ الجنوب أوفر من حظ الشمال بسبب جهاز الدولة الذي ورثه من الاستعمار. ويرى أنَّ الوحدة الفورية الاندماجية أطاحت بكل البنيان.

والواقع أنَّ الإطاحة بدأت منذ الخلاص من جهاز الدولة القديم، وبالتحديد منذ الأيام السبعة المجيدة. فالدولة تقوم بالتشرذم، وتفكيك المجتمع. فما يحدث في صنعاء والجنوب يطرح أسئلة: الشرعية، والوطن والمواطنة، والحرية الدينية، واقتصاد الفساد. ويرى أنَّ الفساد هو أخطر أزمة وجود.

يتناول الدكتور -بمرارة- ذِكرَى الاستقلال: " في ذكرى الاستقلال يجلس الجنوبيون على أطلال وطن. وما أصعب أن ترى وطنك يحتضر! وأن تدرك وتشعر يوميا أنك تنحط إلى ما دون المواطنة. فبعد أن ضاعت مع الاستقلال المكاسِب السياسية والنقابية التي ناضل الناس من أجلها منذ ثلاثينات القرن الماضي؛ عندما أطاح بها الحزب الواحد كلها بضربة واحدة؛ مُشَارِكًا في سياق الحُمَّى التي اجتاحت حركة التحرر الوطني العربية، ويلقي باللائمة على الوحدة الفورية الاندماجية، وشطب حصيلة تحديث دَامَ نحو ستين عامًا.

يدرس الباحث الدكتور أحمد عطية المصري في كتابه «النجم الأحمر فوق اليمن» الإيجابي والسلبي في تجربة ج. ي. د؛ فيقرأ الإيجابي في الكفاح المسلح، وربطه بأشكال النضال الأخرى؛ بحيث أنها لم تكتفِ بطرد الاستعمار فحسب؛ بل ربطته أيضًا بإسقاط السلاطين، وقلب المجتمع بمؤسساته: الاستعمارية، والرجعية، والإقطاعية، ووقفت ضد الأمراء، والأحزاب العميلة، والاهتمام بإقامة التنظيم الثوري، وإعطاء الدور القيادي للعمال والفلاحين، والعداء للاستعمار والامبريالية، وانتهاج الأسلوب اللارأسمالي في التنمية والتلاحم مع ثورة سبتمبر إبَّانَ الكفاح المسلح، ورفض النكسة.

أمَّا الجوانب السلبية فالعنف غير المبرر، والتصفيات وبأعمق الانقسامات، وغياب الديمقراطية والحوار، والاتهامات، والمزايدات السياسية.

ويشير إلى ضعف التحالف بين القوى الوطنية، وضعف البناء الاقتصادي، والعجز عن تقديم الخدمات للشعب.

حَرِصتُ على تتبع انتقاد تجربة ثورة الرابع عشر من أكتوبر من كتابات أبرز وأهم المؤيدين لها ومدوني تجربتها. فالدكتور جمال باروت باحث ومؤرخ أكاديمي درس إلى جانب الدكتور فيصل دراج تجربة الأحزاب اليسارية الشيوعية والقومية العربية في مجلدين ضخمين. وانفرد الباحث باروت بدراسة حركة القوميين العرب؛ وهو الكتاب الذي أشرت إليه عن تجربة الجبهة في جنوب اليمن. وصدر الكتاب عن «مركز الدراسات الاستراتيجية العربي» الذي يرأسه الرئيس الأسبق علي ناصر محمد.

تناول السلبيات، وأخطاء تجربة التحرر والثورة القومية مهمة؛ لأنه لا علاج بدون تشخيص الداء.

شارك في تجربة الرابع عشر من أكتوبر 1963 عمال، وأبناء فلاحين آتون من الريف الأمي القبلي والفقير؛ وكانوا يشكلون الجسم الفِدائِي في حرب المدن، ومثقفون ثوريون من أبناء الطبقة الوسطى موزعون على الاتجاهات السياسية القومية والماركسية؛ حملوا السلاح في مواجهة المستعمر البريطاني وانتصروا في زمن قياسي لعدة عوامل، ثم تملكهم زهو الانتصار، وقدسوا السلاح الذي انتصروا به. فالسلطة السياسية تنبع من فوهة البندقية. البندقية التي انتصرت على بريطانيا في أربعة أعوام، تستطيع أن تتغلب على الأنظمة الرجعية العميلة في الجزيرة العربية بقوة السلاح.

كانت بريطانيا ومعها السعودية يعتقدان إمكانية انتصار الملكية في الشمال، أو على الأقل إغراق الثورة بالصراع.

أمَّا الرابع عشر من أكتوبر فقد كان الحرص شَدِيدًا على إسقاطها؛ وهو ما تكشف عنه الوثائق السرية البريطانية التي كشف عنها الباحث ماري كورتيس في كتابه «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين».

الاغترار بالسلاح، واعتقاد امتلاك القوة، وتغييب إرادة الجماهير، والاستهانة بتضحياتها، وعسكرة الحياة أصابت الثورة القومية وأحزابها ومعارضتها النزاعتين للعنف- بمقتل، ولم تكن ثورة الرابع عشر من أكتوبر استثناءً.

فهل انتصار غزة بالعناد والتضحيات، وصبر شعبها على تهجيرهم المتكرر داخل وطنهم، ورفض التهجير القسري، ومقاومة أقوى قوة في الكون بالجلد والصبر هو طريق الخلاص والتحرر للأمة التي خذلها التعويل الزائد على السلاح حَدَّ التقديس، ولم ينجح سلاحها إلا في قمع الداخل، وتدمير الذات؟!

مقالات

الانتقالي والتطبيع.. مسار يعيد إنتاج الارتهان وينسف شرعية 14 أكتوبر

منذ انطلاقتها في 14 أكتوبر 1963، رفعت الثورة اليمنية في الجنوب هدفا استراتيجيا واضحا تمثل في انتهاج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، انسجاما مع روح حركات التحرر الوطني التي سعت إلى بناء دول مستقلة القرار، بعيدة عن الاستقطابات الحادة بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والشيوعي الشرقي.

مقالات

مؤتمر الباحثين والخبراء في إسطنبول... شمعة في وجه العتمة

تابعت جلسات مؤتمر الباحثين والخبراء في إسطنبول الذي انعقد مؤخرًا بمشاركة نخبة متميزة من الباحثين والخبراء اليمنيين من الداخل والخارج، الذين اجتمعوا على كلمة واحدة عنوانها الإخلاص للعلم وخدمة الوطن، فكانوا صورة مشرفة للعقل اليمني الباحث عن الحقيقة والمبادرة في زمن التشتت والصراعات.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.