مقالات
السردية الفنية للدولة الرسولية
أول ذكر للشعر الحميني ورد عند الخزرجي الزبيدي "731هـ - 1331م"، مؤرخ الدولة 3الرسولية قبل 700 عام. وله كتابان: العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، والعقد الفاخر في تراجم أهل اليمن.
يرتبط مولد الشعر الحميني بنوع معين منهُ، تغلبُ عليه اللهجة التهامية وقد توصل الباحثين المتأخرين، ووافقهم الأستاذ الظفاري، إلى نتائج تؤكد أنه أخذ تسميته «الشعر الحميني» نسبةً إلى القرية المعروفة حمينية بالقرب من حيس في تهامة، والمنطقة كلها معروفة بالحمينية، وإليها ينتسب أهم مؤسسي الشعر الحميني: ابن فليتة، المزاح، العلوي الزبيدي، الأهدل، وقبل الجميع أبوبكر إبراهيم بن يوسف الحكاك، من منطقة حيس نفسها.
هذا الملمح التاريخي، يتيح لنا القول إن شعر الغناء اليمني المُسمى بالشعر الحميني كان السردية الأدبية الفنية للدولة الرسولية، وأحد ملامح ازدهارها، إذ كانت زبيد أهم حواضرها المدنية، ورواد الشعر الحميني يحظون برعايتها، وهي رعاية أولت الأدباء والشعراء، وكل ما له علاقة بالكتابة والتأليف، جُل اهتمامها وعنايتها، عناية الدولة الأهم في تاريخ اليمن بعد الإسلام، التي امتد حكمها من حضرموت إلى مكة، واستمرت أكثر من مائتي عام.
ـ شعر ملحون يصنع لغته وإيقاعاته
أن تستخدم مفردة نحتتها حياتك، وهي جزء من قاموسك اليومي الحي الفائض بالمعنى، شيء، وأن تستخدم مفردة لغوية فُصحى لا تُستخْدم في حياتك اليومية، شيء آخر. الأولى تبدو نابضة بالحياة، والثانية مُصمتة وعاجزة عن استيعاب نبض قلبك وإيقاع إحساسك.
هذا الاحتياج للغة شعرية تستوعب نبض الحياة، جعل رواد الشعر الحميني اليمني يبدعون شعرا غنائيا جديدا ومتفردا، من أهم خصائصه أنه تحرر من العربية الفصحى - جزئياً - وأدخل مفردات يمنية من لغة الحديث اليومي في قصائد الشعر الحميني وموشحاته. وتحرر من النحو، إلى حد ما، متخففاً من الحركات الإعرابية، ومستخدماً "السكون" الذي أصبح من أهم خصائصه الشكلية.
يُعرِّف الأستاذ الباحث جعفر الظفاري الشعر الحميني بأنه "الشعر العربي الملحون المكتوب بأية لغة دارجة من لغات الحديث اليومي، وبغض النظر عن أغراضه ومعانيه، وأبنيته التفعيلية وتراكيبه القافوية".
اللحن في الشعر الحميني ينحصر في حذف حركات الإعراب، والوقف على الكلمة، ممثلا بالسكون، وكما يمليه التدفق النغمي، فضلا عن استعمال التزنيم اللفظي (استعمال مفردات يمنية) باقتصاد واحتراز شديدين، مما يسم جوانب معينة من الحميني بميسم الإيقاع النابع من لغة الحديث اليومي.
صحيح أن عدداً محصوراً من موشحات أهل اليمن يلتزم بقواعد النحو العربي التزاماً صارماً، لكن مثل هذه الموشحات غير مستحبة عند اليمنيين، لا يُلتفت إليها، ولا تحتذى، أو ينسخ على منوالها، لأن حركات الإعراب مرتبطة، أو متوقع ارتباطها، بالشعر الحكمي، بينما يفترض، أو يتوقع، حذفها في الشعر الحميني إذا رأى الشاعر ذلك، وإذا ما اقتضت ذلك مسارب النغم، وتدفق مجاريه .
ومع هذا التجديد الجريء الذي نتج عنه الشعر الحميني والموشحات الحمينية، يرى الباحث الأستاذ جعفر الظفاري أن الشعر الحميني، عند العارفين بأصوله وأسراره، لم يقطع صلته بالشعر العربي الفصيح، ولا يقوم على مجافاة الأساليب النحوية والبلاغية.
يوضح ذلك بقوله: "لا يشوب هذا النوع من الشعر اليمني وعبر عصوره المتطاولة المختلفة، عدم تقيده بحركات الإعراب تقيدا كاملاً، ولا يعيبه استثمار المفردات اليمنية الخاصة بين حين وآخر، وباقتصاد واحتراز شديدين، فهو شعر عربي فصيح في مبانيه، بليغ في معانيه، قد التوى عن مسار القصيدة العربية اضطرارا، مدفوعاً
بنشدانه نغماً يباين في جوهره نغم القصيدة العربية، وذلك أن نغم القصيدة الحمينية ألصق بالقلب، وأقرب إلى الهمس، مما لا يتوافر في نغم القصيد العربي المتولد من بحوره الراتبة وحركات مفرداته الصاخبة».
لماذا هذا المروق من أهم قاعدتين يعتبرا في العربية الفصحى مقياس البلاغة، الإجادة «اللفظ الفصيح، والنحو»؟
يوضح الظفاري ذلك بقوله: «لقد نشد هذا الشعر النغم الشجي الحزين، والواقع المهموس الدال على أغوار الذات الشاعرة، فعمد إلى استثمار السكون للحد من صخب البحور الخليلية وغير الخليلية، ونوع قوافي المنظومة طلبا للموسيقى والوقف عليها، وراح يغاير بين أقسمته طولاً، مستعملا بعض بحور لا ترد ولا يمكن أن ترد في النظم الصاخب المتكئ على توالي الحركات والسكون في أنماط معينة، منوعا بحوره وأبنيته التفعيلية في المنظومة الواحدة، بل إن نشدان الوقف دفع به إلى استثمار بعض الألفاظ اليمنية غير العربية، التي يتوجب الوقوف عليها مهما كانت متطلبات التحريك لاستقامة "الوزن" على أن بعض الباحثين ـ الشاعر
عبدالله هادي سبيت أنموذجاً ـ يستخدم المصطلح الحميني في دلالات واسعة، غير مقيدة، فيطلقونه على أية منظومة قصيرة، وبغض النظر عن كونها ملحونة أو معربة، تؤلف للغناء أو تكون في طبيعتها صالحة للموسيقى والغناء».
يفسر الدكتور الظفاري هذا التوسيع لمدلول الحميني عند البعض، بقوله إن مبعث هذا الاستخدام يكمن في أن للشعر الحميني أغراضا ومعاني، غنائي بطبيعته، وجداني في جوهره، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالغناء والموسيقى عبر حقب متطاولة من الزمن، فأصبح من الصعب التفكير فيما تحدر إلينا من الشعر الحميني دونما تداعي علقته الغنائية الموسيقية.
إذ أصبح الغناء والموسيقى من لوازم الحميني وعوارضه، فليس من المستغرب إذا ما أصبح المصطلح الحميني في توسع دلالته هذه يشمل كل منظومة قصيرة وضعت للغناء أو تصلح للغناء، بصرف النظر عن مفرداتها الوضعية والصرفية، وتراكيبها النحوية والبلاغية، وبنائها التفعيلي وقافيتها.
الشعر الحميني، والشعر الحكمي «العربي الفصيح»
الإحساس يتجدد، واللغة تسايره لكي تتسع له. تتجدد اللغة بأسلوب إستخدامها، والإحساس الذي يُصب فيها. تكتسب اللغة رونقها وبعاءها بطريقة بناء جديد للكلمات تنحت مفرداتها بمقياس معنى متفرد تحتويه، وتكون قادرة على استيعابه. لا تتجدد اللغة باستخدام باذخ لمفردات خالية من المعنى. الإنشاء هو ما يتشكل هنا لا الإجادة وفرادة الكتابة، شعر وأدب، أو نص مفتوح يدعي الفرادة.
شاع في اليمن بعد الإسلام «الشعر الحكمي»، وهو شعر يستخدم العربية الفصحى، ويلتزم التزاماً صارماً بقواعد النحو، ويصنف تحت قسم الحكمة، بحسب تقسيمات ابن رشيق للشعر: وأغراضه هي التزهيد والأمثال والمواعظ. وهناك من الباحثين من يعيد تسميته هذه إلى قبيلة «حكم» اليمنية التي أشتهرت بفصاحتها، وصفاء لغتها ونقاوة مفرداتها العربية. وما يهمنا هنا هو أنه نوع من الشعر استخدم العربية الفصحى، وشاع استخدامه في اليمن بعد الإسلام.
نقد الأستاذ جعفر الظفاري هذا التصنيف الذي يخلط بين الحكمة والأمثال، فالحكمة تُفهم دون الحاجة إلي معرفة القائل والمناسبة، والأمثال لا تُفهم دون الوقوف على موردها، كما أن الأمثال عند قدامى العرب، ليست لها في الغالب غاية وعظية إرشادية.
يذهب الباحث الفذ الدكتور جعفر الظفاري أبعد من ذلك في نقد الشعر الحكمي، الذي وجد في اليمن بعد الإسلام، إذ يقول: «إن القول بأن الشعر العربي الفصيح في اليمن نضح بالحكمة، وكما بيناها، لا ينهض لـه دليل. إن وجود أبيات شاردة، في شعر اليمن في فترة ما قبل الإسلام، أمر لا ينكر، لكن هذه الأبيات لا تتجلى إلا في النزر اليسير من الشعر الجاهلي الموروث (علقمة ذو جدن - مالك بن حريم الهمداني - عمرو بن معدي كرب الزبيدي - إلخ).
وإذا ما ارتدنا ما يتوافر من مظان الشعر الإسلامي، في اليمن، والمسمى بالحكمي، فإننا نجد بعضاً من هذا الشعر مليئاً بالحكم؛ ولكنها حكم صبت في غالبها، في أسلوب بارد وجاف يمثله خير تمثيل بهلوان النظم العربي ابن المقرى، وخاصة في لاميته المشهورة. وهناك لمع عند نشوان وابن الوزير «صاحب البسامة»، ولكن جُل ما حبره اليمنيون، من حكم منظومة، كان نتيجة كد وعناء ذهني، وليس ثمرة مخاضات محملة في مسبوك القول الرصين: نغماً موحياً، وصوراً دالة.
ولا اعتقد - وقد صاحبت الشعر الحكمي مصاحبة طويلة وحميمة - أن الشعر اليمني العربي الفصيح في مجمله، مُحكم، من الناحية البلاغية. جُل الشعر الحكمي منذ مبتدأ الإسلام، لم يرتفع إلى المستوى الشعري المتوسط، الذي نجده عند كثير من الشعراء العباسيين».
الشعر الحميني في «تاج العروس»
عرَّف الزبيدي الشعر الحميني في كتابه "تاج العروس" بقوله: «الحميني ضرب من بحور الشعر المحدثة، وهو الموشحات "يمانية"، قاصر، سُكِب في وعاء لفظي ضيق، وليس صحيحا إلا في بعض جوانبه».
يضيف: «إن الموشح اليمني، في الدوائر الأدبية، وفي مجمله عربي في مفرداته وتراكيبه وهيئته. ولكن حال ما تحدر إلينا من هذا النوع من الشعر لا يلتزم بحركات الإعراب ويستبدلها بالسكون الذي يتوزع في الغالب، وفي جميع أقسمة السطر والبيت وفاق التدفق النغمي:
خانه اصطبار
وجفاه السكون
لو تمكن لطار
بجناح الشجون
كلما دار حار
ما درى كيف يكون
سلبته القرار
ساجعات الغصون
وقد يعمد كاتب القصيدة الحمينية إلى استثمار المترادفة، واللجوء إلى التطفير، والاعتماد على القوافي الداخلية الفرعية المُسكنة الأواخر، وإلى تقصير الأقسمة، نُشداناً للوقف الذي يلذ السامع، خاصة عند الطرب، ومجافاة للنغم المتولد عن البناء التفعيلي، أو التقليل والحد من شدة تدفقه النابعة من حركات الألفاظ، وخاصةً الحركات الإعرابية، وجعل النغم العام للحمينية أقرب إلى النغم المسترخي النابع من اللهجة الدارجة:
في امنازلْ من سفح حاجر حبتي خيموا
وابو ازل
إلى رباهمْ بالشجيْ يمموا
فالهواطل
في الخد قد باحت
بما اكتمُ
والبلابل
نيرانها في مهجتي تُضرمُ
كم أصالي
من مزعجات الشوقْ ما لا في امليالي
وابات في لوعة جوى واحتراقْ
حال حالي
ويا ترى ما حالْ عذب المذاق
هل يسايل
عني أم الإعراض مستحكمُ
وردت القصيدة في اقتباس الظفاري من كتاب الزبيدي دون الإشارة لكاتبها، وواضح أنها حمينية تهامية. وذكرتني بأغنية شهيرة، كتبها محمد عبدالله الكوكباني على النسج الحميني نفسه "السنا لاح"
⁃ الشعر الحميني والموشحات الحمينية
يُقسم الشعر عادةً، في يمن الستينات، زمن إعداد الظفاري لرسالته، إلى نوعين رئيسين: الحكمي؛ وهو الشعر العربي الفصيح، والحميني؛ وهو الشعر العربي الملحون المكتوب بأية لغة دارجة من لغات الحديث اليومي.
وظل مصطلح "العربي" غير الدقيق الدلالة، يتردد، استعمالاً في الدواوين اليمنية، حتى اختفى قبيل مختتم القرن العاشر الهجري، وظهر بديلاً عنه في الاستعمال والعُرف الأدبي مصطلح "الحكمي"، وهو أكثر دقة من "العربي".
أما الحميني، والموشح، فقد ظلا رائجين في الاستعمال حتى يومنا هذا، لكنهما أصبحا متداخلين دلالة، ومتشابكين مفهوماً، إلى حد جعل من كل منهما رديفاً للآخر، وبديلاً عنه عند معطم كُتاب اليمن.
كان الظفاري يحرث، بمنهج حديث، في أرضٍ لم يسبقه إليها أحد من قبل.
لا أسهل من أن تقتفي خُطى من سبقك في استقراء موضوع ما. الظفاري أسس لكل من أتي بعده. ولم يتجاوزه أحد، على سهولة مهمتهم.
من أجل توضيح مفهوم المصطلح الحميني وعرضه عرضاً جامعاً مانعاً قام بعملية استقراء تاريخية - أدبية تفحص خلالها جملة كبيرة من الدواوين الشعرية التي حملت هذا اللون الشعري والتي عالجت هذا الموضوع من هذا الجانب أو ذاك، ويقف عند مقدمات الشعراء لدواوينهم أو عند المقدمات التي كتبها آخرون قاموا بجمع تلك الدواوين، أو دراستها أو مناقشتها مهما كانت قيمة هذه الدراسة، أو تلك المناقشة.
يقدم الباحث جعفر الظفاري ثلاثة تصورات حول مفهوم مصطلح الحميني، كانت قد راجت في الدوائر الأدبية اليمنية حتى زمن إعداده لرسالة الدكتوراة في الستينات.
التصور الأول: لم يضع حدا فاصلا بين الموشح والحميني، وعد هذين المصطلحين متبادلين، وبمعنى واحد مشترك.
التصور الثاني: وهو الذي يفرق بين مصطلحي الحميني والموشح على شاكلة أو أخرى.
التصور الثالث: وهو الذي يستخدم ألفاظاً وتعابير مختلفة لوسم الحميني للتدليل على ماهيته. هذا الوصف مائع غير دقيق الدلالة، مما لا يساعدنا على تكوين صورة محددة الملامح والقسمات، عما يعني الحميني جوهراً وعرضا.
ويخلص الأستاذ الظفاري بعد أن يستعرض مجموعة من الدواوين الشعرية داخل التصورات الثلاثة، التي ذكرناها، إلى نتيجة ملخصها أن «أظهر حقيقة، تستبين في المتحدر الموروث من الشعر الحميني، تتمثل في كون هذا النوع من الشعر قد سكب كما وصل إلينا في أسلوب المبيت المسمط، وهو الأغلب، وفي أسلوب الموشح المنتظم الذي يؤلف فيه التوشيح جزءاً لا يتجزأ من الموشحة، ويرد بانتظام في كل فصل من فصولها المتسقة.
خاتمة:
يشير الكاتب في نهاية أطروحته الرصينة إلى أن عدة عوامل متعددة، ومتشابكة ومتداخلة قد أعانت على فقدان وضياع الجزء الأكبر من الشعر الحميني. ولعل أهم هذه العوامل النظرة العامة للعلماء إلى أن هذا الفن المنظوم لا يندرج تحت باب القصيد المعرب الرصين، ومن هنا لم يلتفت إليه أكثر مؤلفي الطبقات والتراجم والسير اليمنية، إذ أنهم كانوا يزدرونه؛ ولأن جُل العلماء والمصنفين والمؤلفين كانوا ينظرون إلى الحميني نظرة استعلاء وازدراء واستحقار، ذلك أن هذا النوع من الشعر عندهم: «قد اقترن في مجمله باللحن، فلقيَ هوًى في نفوس من حادوا عن النهج وصاغوا مضمونات عبثهم ومجونهم في التراكيب القافوية المختلفة للحميني، وبألفاظ وتعابير ينفر منها الطبع، وينبو عنها الذوق السليم"، كما هي الحال في ديوان الخفنجي وديوان القارة».
أكرر قولهم: «اقترن في مجمله باللحن، فلقي هوى في نفوس من حادوا عن النهج وصاغوا مضمونات عبثهم ومجونهم في التراكيب القافوية المختلفة للحميني».
- هنا نلامس أهم سمات الشعر الحميني: تناقضه مع «حراس الفضيلة» الذين ناصبوه العداء في أزمنة لاحقة للدولة الرسولية.
أليس بإمكاننا، إذن، أن نقول إن اليمنيين قد سبقوا التنوير الحديث في أوروبا، والبلاد العربية، بقرون، في إبداعات
روادهم في الشعر الغنائي والفن، ممثلا في «الشعر الحميني»، وما يرتبط به من غناء، كان الفن الصنعاني ذروة تجليه وتحليقه في الأعالي؟
الشعر الحميني لا يُمل
وكتاب الأستاذ الظفاري، على صغر حجمه، عميق الأغوار، وكل ما فيه يحتاج إلى أكثر من مقال لشرح أبعاده، وما يلامسه، ويغوص فيه.
في مقالتي القادمة سأكتب عن علاقة الموشحات الحمينية بالموشحات الأندلسية