مقالات
السلطة التي جنت على اليمنيين مرتين!!
قبل ثلث قرن، إنحازت سلطة علي عبد الله صالح إلى نظام صدام حسين حين غزت جيوش الأخير دولة الكويت المجاورة (المستقلة والصغيرة والغنية)، في مطلع أغسطس 1990، ترتب على هذا الإنحياز السياسي أن تضرر مئات الألوف من المغتربين والمقيمين اليمنيين في دول الخليج والسعودية، إذ عمدت دولة كالسعودية إلى فرض إجراءات قاسية للإقامة فيها؛ تمثلت بنظام الكفيل، بعد أن كان اليمنيون يحظون بكثير من الميزات في التنقل والعمل والتطبيب والدراسة؛ بسبب اتفاقات سياسية معينة فرضتها سنوات الحرب الباردة..
عاد قرابة مليون مغترب من دول الجوار في هذا الجو الملبد بسحائب الحرب، في وقت كانت تتولد فيها دولة ناشئة (الجمهورية اليمنية)، تواجه الكثير من التحديات الاقتصادية والسياسية.
الخطاب التعبوي الرسمي بسيولته الشعبوية ووعوده حفَّز الكثيرين على مغادرة مستقراتهم، التي قضوا فيها سنوات طويلة، وبعد أن صارت أسرهم جزءا من النسيج المجتمعي في تلك الدول، وعادوا إلى اليمن، حتى إن أسرا كثيرة من تهامة وحجة وحضرموت لم تعرف مواضع أسرها الأصلية بعد أن انقطع التواصل الجيلي بينها.
نشأت على حواف المدن الرئيسة والمناطق الحيوية، جراء هذا التدفق، مجتمعات سكانية جديدة بفعل موجات النزوح الفقير؛ من جرائها بدأت تظهر معضلات اجتماعية واقتصادية في ظاهرة ما عرف ب"المحاوي"؛ بفعل الاختلاط المتعدد.. الأموال القليلة التي عادوا بها، وكذا محتويات مساكنهم (أثاث ومستلزمات) تبددت في فترة قصيرة.
اكتشفوا أن الوعود، التي ساقها خطاب السلطة (أن الدولة الوليدة بحاجة إلى جهدهم وأموالهم)، ليس أكثر من وهم كبير، وإن الدولة الجديدة، التي حلموا بها، بدأت تعصف بها رياح الخلافات بين شريكي الحكم (المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني)، بعد أن وجد الأخير نفسه بين فكي كماشة خصومه التاريخيين (قوى أصولية سياسية ودينية)، أفضت بعد أربعة أعوام إلى الانفجار الكبير، الذي ترتّب عليه استحقاقات سياسية واقتصادية كبيرة، تحوَّلت إلى مشكلة حقيقية في حياة اليمنيين.
وجدت مئات الأسر العائدة نفسها في مآزق كبيرة جراء هذا الوضع المختل، فحاولت العودة إلى المناطق التي عاشت فيها، غير أن الأمور كانت فد تغيَّرت تماماً.. نشطت عمليات تهريب الأفراد في المناطق الحدودية، وعلى الحدود ذاتها نشأت مجتمعات مصغرة من المشرَّدين (نساء ورجال) وقعت تحت رحمة المهربين وحرس الحدود، فخلقت بدورها معضلات اجتماعية جديدة، عاش على تناسلاتها ضباط فاسدون ومهربون بلا ضمائر، وحتى اليوم لم تزل هذه الحالة قائمة بل تزداد ضراوة في مناطق التماس الحدودي، وتحول منطقة مثل "الرقو" في صعدة إلى مجتمع هامش قاسٍ يتحكم به المهربون، أشبه بسوق نخاسة.
(**)
بعد ثلث قرن تكرر الحكومة اليمنية الخطأ نفسه، وهذه المرة مع الجانب المصري؛ بقيام وزير الخارجية (أحمد عوض بن مبارك) بزيارة إلى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا وسد النهضة؛ في وقت تشهد فيه العلاقات المصرية - الإثيوبية توترات شديدة بسبب مشكلة السد المعروفة للقاصي والداني.
ترتَّب على هذه الزيارة، وقيل على تصريح غير مسؤول، أن اتخذت الحكومة المصرية عديد إجراءات بشأن المقيمين اليمنيين في أراضيها، وكذا القادمين إليها، ومنها اشتراط تقديم تقارير طبية معمَّدة من المستشفيات الحكومية المصرية، بالنسبة للمرضى فوق الخمسين، بعد أن كان يسمح لهم بالدخول بدون عوائق.
أما مرافقو المرضى بين سن "16-50"، وكذا القادمون إلى مصر لأي غرض كان (في هذه الفئة العمرية) فيشترط حصولهم على تأشيرات دخول مسبقة، بعد أن يُكتفى بتقارير يمكن الحصول عليها من المطارات اليمنية، التي تقلع منها اليمنية إلى القاهرة؛ مثل مطاري عدن وسيئون.
ضمن هذه الإجراءات سيتعيَّن على المقيمين فيها فعلاً تجديد إقاماتهم بشكل دوري، وسيرتبط ذلك إما بامتلاك شقة أو عقد عمل، أو منحة دراسية، أو حسابات بنكية، وهي أشياء في غير متناول أكثر من مليون ونصف يمني يعيشون في حواف الكفاف هناك، بعد أن تركوا اليمن بسبب حالة الحرب والتضييق.
مثل هذه الإجراءات، إن لم تلغَ أو تخفف، ستصعِّب على الكثيرين الإقامة والسفر والدراسة وغيرها في بلد ظل على الدوام حضناً دافئاً لليمنين طيلة عقود.
وفي سنوات الحرب، التي شتت اليمنيين، كانت مثل أم رؤوم قدمت لهم ما لم تقدمه غيرها، بعد أن أوصدت البلدان أبوابها في وجوههم، فاقتسموا مع الشعب المصري الطيِّب لقمته وموارده في أصعب الظروف.
لمعالجة الخطأ الكارثي هذا اتفق مع الرأي الذي يقول:
"إصلاح علاقة اليمن بمصر تبدأ أولاً بإقالة بن مبارك، والاعتذار بشكل رسمي لمصر؛ كمدخل لتدارك الأمر، واحتواء ما يظهر أنه أزمة بين البلدين".
أزمة إن لم تحتوَ سيدفع ثمنها الكثير من اليمنيين المقيمين، ويعيشون حالة الكفاف الفعلي، وليس أولئك المتخمون والفاسدون، الذين وجدوا في حالة الحرب والانقسام والتفكك فرصة حقيقية للإثراء بطرق شتى، وعلى رأسها المتاجرة بدم الضحايا.