مقالات
السهول.. بوابة اليمن نحو الاستقرار
جرت التغييرات الكبيرة في اليمن منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وذلك مع بداية الانتقال من المرتفعات والجبال نحو السهول، وقد فرض الاستقرار البشري في السهول والتطور الزراعي الذي نتج عنه الحاجة الملحة لقيام سلطة مركزية تنظم شؤون المجتمع، وبروز مؤسسات للدولة تمتاز بالرسوخ والكفاءة، وقد تجاوزت هذه الفترة القرون العشرة، وتميزت بالاستقرار والازدهار الحضاري، خصوصاً، مع نشاط التجارة البرية، والذي كانت تستفيد منه دول مثل سبأ، وحضرموت، وقتبان، ومعين.
مع بداية القرن الأول قبل الميلاد انتقل مركز الثقل في اليمن إلى المنطقة الجنوبية الغربية، وغدت مدينة ظفار الواقعة بالقرب من مدينة يريم، التابعة لمحافظة إب حاليا، والتي تقع إلى الجنوب من صنعاء، عاصمة لليمن بأكملها في عهد الدولة الحميرية. وتعد هذه المنطقة من اخصب مناطق اليمن، وأوفرها بالموارد المائية.
استطاعت الدولة الحميرية انطلاقا من ظفار خلال القرون الميلادية الأولى من بسط نفوذها على كامل الرقعة الجغرافية لليمن، بل وامتد نفوذها إلى وسط وشمال الجزيرة العربية، حيث تمكنت من توحيد كل اجزاء البلد تحت راية ملوكها وحكامها، وقد ساعدت الموارد الاقتصادية التي تتمتع بها الأراضي الحميرية على دعم طموحات زعمائها، والقضاء على بقية القوى والكيانات المنافسة في بقية البلاد، لكن فترة الازدهار لم تدم، مقارنة بما كانت عليه أوضاع اليمن في دولة مثل سبأ، والتي كان مركزها في الوديان الشرقية.
وفي هذه الفترة التاريخية ذاتها تعطل خط البخور البري، الذي كانت تخترق دروبه أراضي سبأ، وقتبان، وحضرموت، والذي كانت تستفيد من عوائده، وتجني الأرباح، جميع الدول التي يخترقها، الأمر الذي أدى إلى ضعفها، وتضعضع أحوالها الاقتصادية، فبدأ الخراب يدب في أنظمة الري ومنشاته العملاقة، وخراب الآراضي الزراعية، وترافق ذلك مع هجمات بعض القبائل البدوية القادمة من شمال الجزيرة العربية، وضغطها على المراكز الحضرية، في مناطق السهول الشرقية التي كانت المركز الرئيسي ومقر الدول اليمنية خلال الألف الأول قبل الميلاد.
ولان أسهمت طبيعة المناطق المرتفعة، وما تتميز به بيئتها من مناخ معتدل، جعل منها مكاناً جاذباً للسكان، فإنها من ناحية ثانية بسبب تكوينها الجيولوجي، قد عزلت التجمعات السكانية عن بعضها البعض، واسهمت السكنى في الجبال بعدم قيام المدن الكبيرة، وتناثر الكتلة البشرية، الأمر الذي أثر في بقاء العصبيات القبلية، والمناطقية، والمذهبية داخل المجتمع، إلا أن انبعاث هذه التناقضات بصورة متكررة، يعود بالدرجة الأولى للطريقة التي استمر الحكام - مهما تغيرت القابهم - يستخدمونها كنهج ثابت في التعامل مع المناطق المختلفة، والتي تقوم على اذكاء هذه التناقضات، واستغلالها لتسميم أجواء الانسجام بين السكان، والعمل على تأليب بعضهم على البعض الآخر، بهدف ارهاقهم والسيطرة عليهم والاحتفاظ بالسلطة، وهذا ما أوجد شرخا نفسيا داخل مكونات المجتمع المختلفة، يعبر عن حضوره في عدم الالتفاف تحت راية واحدة لمواجهة الأخطار، وفي غياب حالة الاجماع الوطني داخل البلاد حول القضايا الرئيسية.
وإذا كانت هذه "الشماريخ المنتصبة التي كأنها العملاق هي قاهرة الغزاة التي تتحدى كبرياءهم، وتنكسر على صفاتها الصلبة تلك المنهجية الهوجاء، فيرتد عنها متنكباً وهو حسير" [محمد علي الأكوع اليمن الخضراء مهد الحضارة ص 34] تلعب دوراً مهما في الدفاع عن اليمن عند تعرضها لأي غزو أجنبي، فإنها كما يقول علَّامة اليمن ومؤرخها الأكوع "هي أيضا التي ساعدت وتساعد على انقسام اليمن إلى دويلات وإمارات واقطاعات بمجرد أن تحس بضعف الحكومة المركزية ووجود اختلاف داخلي" [المصدر السابق]
منذ بداية المرحلة التاريخية للانتقال نحو الجبال والمرتفعات، بدأت تظهر العديد من القوى والكيانات المتنافسة، وقد شجعتها البيئة الجبلية فهي بحسب الدكتور حمود العودي " بما تشتمل عليه من تركيب جبلي شديد الانحدار والتضرس تقدم اغراء غير محدود على التمرد والرفض"، لكن دون أن تمتلك أي عوامل تساعد على قيام دولة مستقرة ثابتة، وراسخه، ولقد ترتب على تلك الأحداث أن تغيرت "ملامح الخريطة السياسية للدولة بشكل عام، عندما برزت مؤسسات سياسية جديدة تزعمها أمراء الهضبة الغربية (الأقيال)، أو (زعماء الإقطاعيات)، الذين أصبحوا يلقبون أنفسهم بلقب ملك منافسين بذلك الأسرة التقليدية في العاصمة (مأرب)، التي بدأت تفقد نفوذها وبريقها السياسي." [د. أسمهان الجرو ملامح من الحياة العسكرية في دولة سبأ]. وبفقدان مأرب وشبوة لدورهما الريادي فقدت اليمن حظها من الاستقرار طويل الأمد، إذ كان الاستقرار والازدهار بعدها مجرد فلتات تاريخية عابرة.
إن ما نسعى التنبيه عليه من خلال ما قدمناه في السطور السابقة، هو أن بقاء التركز في الجبال سيظل مصدرا مساعدا لتعدد مراكز الحكم، وليس تعدد القوى فقط، ويعمل على تشجيع التمرد على أي حكومة مركزية قائمة، ويصعب من قيام أي نهضة تنموية شاملة، وللخروج من هذه الدوامة التي افرغت حيوية اليمن في الصراعات، فإن على الحكومات اليمنية والقوى الوطنية، أن تعمل وتعزز على تحويل السهول الى مراكز جاذبة للسكان، فهذه هي الخطوة الأهم لاستعادة اليمن عافيتها واستقرارها.
ولعل الخطوة الأولى في هذا التغيير التاريخي الذي يتمثل في عودة السهول لاكتساب أهميتها قد بدأت، وسوف تتواصل، ولن تتمكن نتائج الحرب أيا كانت أن تقف حجر عثرة في طريقها، ومتى عادت السهول لأداء دورها التاريخي، فإن الاستقرار والازدهار حتما سيترافق معها كما تؤكد عليه الشواهد القائمة، وتجارب القرون الماضية.