مقالات
الفجوة التي تقتات منها المليشيات
لنتجاوز هذا العنوان إلى ما هو أهم في الواقع. الوضع في الميدان تجاوز بكثير معاركنا المرهقة على صفحات التواصل الاجتماعي.
إنما لا بأس من العودة، في كل مرة، لمحاولة فض الاشتباك حيال ما يحدث في مناسبات متجددة.
في كل مرة، نجد أنفسنا عالقين بين فريقين، يتبادلان التهم والتلفيقات، بينما يقف الحوثيون، في الضفة الأخرى، مبتسمين ومتشفين بما يجري، وبعضهم لديه وسائله الماكرة والخبيثة في صب الزيت على النار.
ما يهم المليشيا هو تجذير واقعها على الجغرافيا؛ لهذا ومنذ اللحظات الأولى للتوسع الميداني، وهي لا تكتفي بإحراز نصر عسكري في الجبهات، وإنما تسنده بدعامات فكرية وتعبوية.
في ظل هذا التدهور المريع والواقع المفكك، الذي أنتجته حروبها، يجد أنصار الرئيس الأسبق، علي عبد الله صالح، فرصتهم لتصدير صورة محسنة لعهده، وترديد عبارة أثيرة: "سلام الله على عفاش".
يمكن أنصاره أيضا استدعاء كثير من معطيات الاستقرار والأمن في زمنه، مقارنة بما هو كائن الآن.
لا يكتفي البعض منهم بتوصيف الوضع الراهن فقط؛ يريدون من الطرف الآخر، أكثر من ذلك، أن يظل هكذا يقيم حفلات شماتة ولطميات لذاته باعتباره المسؤول عن ما آل آليه الوضع.
الأسوأ، شيطنة الضحايا المدنيين، ممن غادروا الحياة برصاصات الغدر والبلطجة السابقة، أو لا زال بعضهم يصارع جراحاته ووضعه المعيشي البائس.
لا يمكن الاعتراف بشيء من أخطائهم هم. يعدون طرفهم ملائكيا ومنزها عن كل خطأ، كما لا ينظرون إلى الانتقام الذي جلب، مع معطيات أخرى كثيرة، هذه الويلات التي نعيشها اليوم.
في مناسبات عديدة، يُراد توريطك بقبح أفعال لم ترتكبها، ولا يتم النظر إلى النوايا الحسنة، ولا إلى الأسباب الموضوعية الناتجة عن الأفعال الثورية.
مرحلة صالح المستقرة كان لها ظروفها ومعطياتها. يكفي أن ندرك أن المدة الطويلة في الحكم توفرت لها فرص عديدة للتقدم والنهوض بالبلد إلى مصافِ الدول المتقدمة؛
تستحق هذه الفترة مثلا مقارنتها بمثيلاتها في دول الجوار على أقل تقدير، وليس بالأوضاع الطارئة والأوضاع الانتقالية التي مرّ بها البلد.
البعض يتصوّر أن صالح لو لم ينتهِ إلى تلك الصورة، التي انتهى إليها، كان قادرا على إزاحة الحوثيين، والعودة إلى السلطة.
لا يتصور ولا يخمن أنه سيكون مجرد حاكم ذليل على مربَّعه الأمني في شارع حدة فقط، لا حول له ولا قوة، أو مثله مثل أي شيخ نافذ الآن، يسكن تحت رحمة الحوثيين.
ما أسوأ البدائل التي أخلفته في السلطة؛ هذا صحيح ويجب الاعتراف بذلك.
تحديدا الرئيس هادي يعد أسوأ خلف لشر سلف؛ لأنه تماشى مع مؤامرة تفكيك الدولة، خطوة بخطوة.
إلى ذلك، تعرضت الدولة في عهده للتجريف الممنهج، وثبتت سياسته حكم المليشيات، برغم ما حظي به من دعم غير محدود.
كانت كثير قوى وقيادات تبدو في حالة خدر وترقب في انتظار أية تحركات منه.
لم يحرك ساكن، عوضا عن أنه زار محافظة عمران، عقب سقوطها في قبضة الحوثيين، وقال عبارته الشهيرة: "عادت إلى حضن الدولة".
في هذه الحالة، مثل حالات أخرى، يحق لأنصار صالح العثور على عزاءات ومناحات لتبرير انتقامه من نفسه، ومن الجمهورية معا.
على الأقل، بدا انتقامه واضحا ومفهوما من ناحية سياسية، ولا مجال هنا لمقارنته مع هادي.
ثمة ثغرات كثيرة أدت إلى ما نحن فيه الآن. إذا كانت مليشيا الحوثي قد استغلت المناخ الثوري لإظهار ثوب المظلومية بصورة أكبر، كما واستفادت من المنصة الإعلامية في ساحة التغيير بصنعاء، وبقية ساحات الجمهورية؛ هناك في المقابل من فتح لها مخازن السلاح، ومهَّد لها الطريق بالرجال والعتاد، من منطقة دماج وحتى إسقاط عاصمة الجمهورية.
ينبغي القول بصدق إن الواقع سيئ وكارثي ومرعب، وهو نتاج لأخطاء كثيرة ومتبادلة، وكلا بقدر طاقته ومسؤوليته.
أيضا، يمكن النظر إلى حيث تقيم النخب الانتهازية والمتسلقون على ظهر الثورات بصرفيات المال المدنس القادم من وراء الحدود؛ هؤلاء من الوفرة في كل مرحلة، مثلما أنهم لا يعدمون الوسيلة للتقلب في أي اتجاه، والانتقال بين ضفة وأخرى، بدون فارق وقت أو حيثيات موضوعية؛ غير أنه لا يوجد أي تماثل أخلاقي في الواقع والمسؤوليات، والمقارنة فارقة ومختلة في كل شيء.
مع كل ذلك، الوضع لم ينتهِ، وصحيح أن الفاتورة ستكون مؤلمة ومضاعفة، علينا النظر إلى الضوء في آخر النفق، والسير إليه بتلاحم وطني موسع.
الجمهورية لن تستعاد بصفقات السياسة، ولا بجهود المجتمع الدولي، ولا الإقليمي؛ هؤلاء جميعا عقَّدوا الحلول، ولديهم مصالح متضاربة، وهم أساسا مجرد ميسِّرين للفواعل الداخلية.
الأهم الانتباه جيدا لوجود طرف مليشاوي أو أكثر لا زال يقتات على هذا الواقع المختل، ويقدِّم لليمنيين أسوأ تجربة ونموذج للعبودية والعار لمائة سنة قادمة.
بدل التمترس، كلا في موقفه، هل ثمة استعداد لمقاربات شجاعة، تردم الفجوة التي يتسلل منها شيطان التفاصيل إلى هذه اللحظات المخجلة في تاريخنا؟