مقالات
اللعنة اليمانية !
إلى قبل عشر سنوات، كان المستثمر أو السايح يؤخذ باليمن، بمناخه المتنوّع، من منطقة إلى أخرى، وبالجَمال الذي تزدان به بيئته وتكوينه، سهلاً وساحلاً، جبلاً وصحراء، وبعاداته وتقاليده وحضارته وتراثه وأكلاته وأزيائه، وأولاً وأخيراً بإنسانه.
وكلما تعدّدت الزيارات، زادت المتعة والفائدة لدى الزائر، وتعاظمت بهجة الزيارة بهذه الزيادة في معرفة بواطن الجمال ومشاهد الرّوعة في هذا البلد الذي كان اسمه، في الأمس البعيد، يُقرن بوصف السعادة، فلا يُقال عنه إلاَّ "اليمن السعيد". فماذا حلَّ بالسعادة في اليمن، أو ما الذي فرَّق بين اليماني وأسباب السُّعْد؟
بدأت "اللعنة" بانهيار سد مأرب، بحسب الرواية التاريخية الشهيرة. وإذْ "تفرَّقتْ أيدي سبأ" حينها، فقد بدأ العد التنازلي لسيرة السعادة ومسيرة الرخاء والسخاء والازدهار.
يومها، بدأ اليمانيون يعرفون دروباً جديدة لم يألفوها: الهجرة والاغتراب، والفقر والحرمان، والتخلف والتقهقر على كل صعيد، في الاقتصاد كما في الاجتماع، وفي العلم كما في التجارة، وفي الزراعة وهندسة الري، كما في التنظيم القانوني والتشريع.
وزادت الغزوات الخارجية من فداحة المشهد اليماني، وفاقمها اندلاع الحروب القبلية والاضطرابات الداخلية، وظهور بُعبع الثأر وانتشار الجريمة وقطع الطريق والسلب والنهب والتخريب.
وزاد الطين بلَّة انتشار زراعة شجرة 'القات' على حساب الرقعة الزراعية التي كانت مزدهرةً بزراعة المحاصيل وأشجار الخضار والفاكهة والنخيل والحبوب والبُن وغيرها.
ثم دخل اليمن في عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، ما أدّى إلى تدهور اقتصادي وتقهقر معيشي. وحلَّ العَوَز محل الاكتفاء، والشحَّة محل التخمة. وشهد العلم والتعليم تخلفاً واضحاً، وزادت نسبة الأمية، خصوصاً في الريف، وفي أوساط النساء، حيث جاوزت نسبتها في تلك المناطق، ولدى تلك الفئة، 70%. وانتشرت الأمراض والأوبئة المستعصية على العلاج، ثم اندلعت الفتن ذات النزعات الجهوية والطائفية والمذهبية، والتي غذَّتها عوامل داخلية وخارجية.
وزاد سرطان الفساد الذي استشرى، بصورة مخيفة، في جميع مفاصل الدولة ومؤسسات الحكومة، من تفاقم التدهور في المشهد العام، ما اعتُبِرَ القشة التي قصمت ظهر البعير اليماني المنهك، فاندلعت الثورة الشبابية التي غدت شعبيةً، في 11 فبراير 2011، فحققت ما استطاعت من تغييراتٍ طفيفة، سياسيةٍ وإداريةٍ ومالية، غير أنها لم تستطع بلوغ غاياتها الكبرى بتحقيق التغييرات الجوهرية والبنيوية في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية الأكثر أهميةً، إذْ سرعان ما حدث الانقلاب في 21 سبتمبر 2014 الذي أقدم عليه الحوثيون بالتحالف المباشر مع الرئيس علي عبدالله صالح، الذي عاد منتقماً من 'ثورة الربيع اليمني' التي أطاحت حكمه، وجاءت بنائبه عبدربه منصور هادي رئيساً، بحسب رغبته ومقترحه!
وندرك فداحة المشهد الذي استولده الانقلاب والحرب التي استجلبها على حياة اليمنيين في إعلانات "اليونيسيف" المتكررة، التي تؤكد في كل فترة أن ملايين الأطفال في اليمن يعانون من سوء التغذية. وتقول ممثلة المنظمة الأممية في اليمن، ميريتشل ريلانو، إن "معدلات سوء التغذية في اليمن الأعلى والأكثر تصاعداً من أي وقت مضى، وصحة أطفال البلد الأفقر في الشرق الأوسط لم تشهد مطلقاً مثل أرقام اليوم الكارثية".
ويورد تقرير صادر عن المنظمة الدولية أنه "يموت في اليمن طفل على الأقل كل عشر دقائق، بسبب أمراض يمكن الوقاية منها، مثل الإسهال وسوء التغذية والتهاب الجهاز التنفسي". وقد انتشرت أوبئة كثيرة، وبات من المتعذَّر تقديم أبسط وسائل الإغاثة وإمدادات الغذاء وعلاج الأطفال، بسبب اشتداد القتال في معظم مناطق البلاد.
وتحتاج "اليونيسيف"، بحسب ممثلتها في اليمن، 70 مليون دولار (وذلك الرقم كان في عام 2017) لتتمكّن من توفير هذه الخدمات. ولا أدري كم بلغ الرقم اليوم؟
وشاء تنظيم 'القاعدة' أن يزيد إلى آلام اليمنيين نوعاً جديداً، هو الأكثر مأساوية ودموية. وما زال سجل جرائم التنظيم يزداد، ولا أظنه سيتوقف! .. في الوقت الذي يمارس التحالف السعودي الإماراتي - ومن ورائه حكومة 'اللوكاندة' - ضد اليمن جرائم لا تقل بشاعة عن جرائم الأطراف الأخرى!
إن الجراح التي أصابت الجسد اليمني، لاسيما المُقترفة بأيدي الحوثيين و"القاعدة"والتحالف و"شرعية" الفنادق، ستظل تنزف، وستظل آثارها الجسيمة في الوعي والوجدان الجمعي، قبل الاقتصاد والعمران وبعدهما، ما يجعل المرء يعتقد بقوة أن هذا البلد لن تقوم له قائمة عقوداً عديدة قادمة.
سألتني صديقة عربية أوروبية ترغب بشدة في التعرُّف إلى اليمن: صِفْ لي اليمن بعبارة موجزة ومكثفة كعادتك في الكتابة يا صديقي؟
أجبتها: يكفي أن تعرفي أن في بلدي الحبيب من البنادق أكثر مما فيها من الرجال .. ومن الخنادق أكثر مما فيها من النساء .. ومن الفتن أكثر مما فيها من المهن! صمتتْ بعدها ولم تنطق ... ربما إلى الأبد!