مقالات
المجلس الرئاسي: سلطة بلا روح
ثمة لحظة في التاريخ، حين تبلغ السلطة ذروتها في التكرار الفارغ، وتغدو الدولة مجرد قشرة بلا لبّ، مجرد طيف بيروقراطي يمرّ كل صباح على نشرات الأخبار دون أن يمسّ الواقع.
في اليمن، هذه اللحظة تجسّدت في المجلس الرئاسي: كيان يتنفس بصعوبة، ويُدار كتمرين على الحُكم، لا كسلطة حقيقية. لقد وُلد هذا المجلس في الفراغ، ومهمته الكبرى -من حيث لا يدري- أن يكرّس هذا الفراغ ذاته.
من الناحية الفلسفية، لا توجد سلطة دون "معنى". السلطة في جوهرها ليست فقط القدرة على القهر أو التوجيه، بل هي شبكة رمزية تُقنع الناس أن هناك نظامًا يستحق الطاعة، أو على الأقل يستحق الوجود. المجلس الرئاسي فشل في ذلك تمامًا، لم يستطع حتى أن يُنتج خطابًا قابلاً للتصديق، ولا سردية مقنعة عن شرعيّته، ولا أي مشروع ينتمي إلى فكرة الوطن. كل ما فعله هو أن أعاد تمثيل الدولة بوصفها خيالًا إداريًا، يُدار من الخارج، ويُعرض على الداخل.
إنه كيان يتحرَّك ضمن مسرح بلا جمهور، يتبادل الأدوار بين أعضائه، ويكرر الشعارات نفسها التي استهلكها الزمن، دون أن يُدرك أن الناس في الخارج لم يعودوا ينتظرون شيئًا. المواطن اليمني تجاوز مرحلة الانتظار، وتجاوز أيضًا مرحلة الغضب، دخل في طور اللاجدوى، حيث لا معنى للاحتجاج لأن الفاعل غائب. إنها لحظة "تفكك الرمز"، اللحظة التي تصير فيها الدولة بلا مرجع، والسلطة بلا حامل أخلاقي، والخطاب بلا جمهور.
ما يُدير البلاد اليوم ليس حكومة، بل عُرف الواقع. الناس يحكمون أنفسهم بالعادة، بالتجربة، بالحذر، بالذاكرة الجمعية، لا بقوانين تصدر من المجلس الرئاسي.
الفوكويون قد يسمّون هذا تفكك السلطة المركزية لصالح المراقبة الذاتية الاجتماعية. لا أحد يؤمن بالمجلس الرئاسي، لا لأنه ظالم فحسب، بل لأنه عدمي. أي سلطة لا تملك مشروعًا، ولا تصوغ غاية، ولا تُنتج فكرة، سرعان ما تتحوّل إلى قيد بلا مضمون.
وعند تفكيك المشهد، سنجد أن المجلس الرئاسي ليس سوى عرض جانبي لانهيار أعمق: انهيار مفهوم الدولة الوطنية. فالدولة اليمنية، كمفهوم حداثي، لم تكتمل يومًا. كانت دائمًا ناقصة، مخترقة، مهشّمة. لا أحد من القائمين عليها امتلك يومًا تصوّرًا حقيقيًا لما يجب أن تكون عليه الدولة. وظل الشعب في موقع "المتلقي السلبي" لقرارات ومصائر تصاغ في مكان آخر، وتنفذ هنا، على جسده الحيّ.
اليوم، لم تعد المشكلة في المجلس بوصفه حكومة، بل في ما يمثله: خرافة الدولة حين تُدار بلا إرادة داخلية، بلا شرعية نابعة من الناس، بلا فلسفة للحكم. الدولة ليست أجهزة فقط، بل هي معنى يتكرر يوميًا في وعي الناس. وما يفعله المجلس هو تدمير هذا المعنى، وتثبيت قناعة أن السلطة ليست أكثر من عملية إدارية تُوزع فيها الامتيازات، وتُدار فيها التحالفات، دون أدنى اهتمام بفكرة الكلّ، بفكرة المواطن، بفكرة التاريخ.
لقد تآكلت السلطة من الداخل؛ لأن ما بُني على الصفقات لا يمكنه أن ينتج مشروعًا، وما صيغ لترضية الخارج لا يمكنه أن يُخاطب الداخل، وما يقوم على الخوف لا يثمر إلا صمتًا مريبًا، صمتًا لا يدل على رضا، بل على القطيعة.
الجميع يتساءل: متى يُنجز المجلس الرئاسي وعوده؟ هل ما زال هناك مجتمع سياسي يربط بين الحاكم والمحكوم؟ هل هناك دولة أصلًا؟ أم أننا نعيش في ما بعد الدولة، حيث السياسة تُدار بالنيابة، والمصير يُقرر في الخارج، والداخل مجرد حقل للتجريب!
كل المؤشرات تقول: لم تعد هناك دولة بالمعنى الحقيقي. هناك حفنة من الكيانات الإدارية التي تحاكي مؤسسات الدولة، لكنّها لا تحمل روحها. هناك وزراء لا يملكون قراراتهم. هناك "رؤساء" بلا مشروع. الشعب يتحسس الحياة بعينين شاكّتين، ويصحو كل يوم على سؤال واحد: من يحكم هذه البلاد؟ ومن أين تُدار حياتنا؟
- المواطن منفصلًا عن السلطة
حين يفشل الكيان السياسي في توفير الحد الأدنى من المعنى، يتفكك الرابط الخفيّ بين الفرد والدولة. يصبح "المواطن" مجرد ساكن في أرضٍ لا يشعر أنها تخصه، ويغدو "الانتماء" إلى الوطن فعلًا ذا طابع نوستالجي، لا عملي. هذا ما يحدث اليوم في اليمن، حيث يعيش الناس في بلدٍ بلا دولة، ويُدارون بلا شعور بالانتماء للسلطة. لم يعد المجلس الرئاسي مصدرًا للقرار أو الأمان أو المعنى، بل صار رمزًا للفراغ، كائنًا إداريًا بلا جاذبية، عاجزًا عن تشكيل هوية جامعة أو مشروع وطني.
الفرد اليمني، الذي كان يربط مصيره يومًا بما تفعله "الحكومة"، فقدَ هذه العلاقة النفسية. لم تعد هناك ثقة، ولا حتى كراهية كافية لصناعة احتجاج فعّال. ما نشهده هو تحوّل تدريجي نحو الانفصال الوجداني عن الدولة. وهذا الانفصال هو أخطر أشكال السقوط؛ لأنه يتم على مستوى اللاوعي الجمعي. الناس لم يعودوا يرون الدولة كحامٍ، ولا كرقيب، ولا كمعطى يجب الحفاظ عليه. بل ينظرون إليها كعبءٍ مؤقت، مؤسسة ستنهار يومًا ما، أو تُستبدل، أو تُتجاوز.
في هذه اللحظة، يُصبح الصمت الشعبي ليس ضعفًا أو خضوعًا، بل مقاومة سلبية. فحين يسقط معنى الدولة، تصبح اللغة الرسمية محض هذيان، ويغدو كل خطاب صادر عن الرئاسة كمن يصرخ في الفراغ. الصمت الشعبي إذًا هو قرار بعدم التورّط في اللعبة، رفضٌ عميق، صامت، لكنه وجودي. الناس لا يردّون على وعود المجلس؛ لا لأنهم عاجزون، بل لأنهم يرون اللعبة كاملة، ويعرفون أن الردّ سيكون جزءًا من إعادة إنتاج الوهم.
المجلس الرئاسي يعيش في حالة وجود بلا شرعية، شرعية بلا سيادة، وسيادة بلا جماعة وطنية تعترف بها. الدولة التي لا تُصدّق من الداخل، لا يمكن أن تُحترم، ولا أن تُدوَّن في الذاكرة الجمعية إلا بوصفها فترة عبور نحو شيءٍ آخر.