مقالات
المرشدي.. الفنان والمثقف المختلف!! (1-2)
في الأسبوعين المنقضيين، قمت بمطالعة خمسة كتب ارتبطت بالفنان الكبير الراحل محمد مرشد ناجي (المرشدي)، وجميعها تحيل إلى فنان ومثقف رفيع، شديد التنوّع والثراء؛ عانى من قسوة الحياة كثيراً في طفولته، وتنقّل بين أعمال هامشية عديدة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي في مدينة عدن، قبل أن تنصفه في العقود التالية وتقدمه كأحد رموز اليمن ومستنيريه الكبار.
أقدم الكتب، المقروءة، أصدره المرشدي في العام 1983م وعنوَنه بـ"الغناء اليمني القديم ومشاهيره"، عن دار الهمداني في عدن؛ الكتاب الثاني في تسلسل الإصدار حمل عنوان "غنائيات المرشدي"، وظهر في العام 1998م عن مركز عبادي في صنعاء، أما الكتاب الثالث فهو سيرته المبكرة التي أصدرها في العام 2000 تحت عنوان "صفحات من الذكريات" عن جامعة عدن؛ الكتاب الرابع حمل عنوان "أغنيات وحكايات"، وصدر في العام 2001م عن مكتبة الجيل في جدة. الكتاب الخامس المعنون بـ"سلطان الطرب" وهو شهادات العديد من المثقفين والفنانين اليمنيين عن الرجل، وصدر بمناسبة مرور مائة يوم على وفاته في مايو 2013م عن جامعة عدن. ويسبق الكتب الخمسة كتاب مهم أصدره في العام 1959م بعدن تحت مسمَّى "أغانينا الشعبية"، وكان ذلك أول جهد تنظيري للفنان الذي كان اسماً مهماً في بنية الحركة الثقافية والفنية اليمنية الموحّدة في المستعمرة عدن طيلة فترة الخمسينات، وخصوصاً منذ انضوائه السياسي والنقابي للجبهة الوطنية المتحدة المناهضة للاستعمار البريطاني، وكانت تطالب باستقلال الجنوب اليمني المحتل.
يقول المرشدي، عن هذا الكتاب: "عندما كتبت (أغانينا الشعبية) لم يكن الهدف من الكتابة تناول قضايا فنية بحتة حول الأغنية الشعبية في اليمن، والقصور في هذا الجانب واضح كل الوضوح، وكان القصد والمراد هو خدمة أهداف الجبهة الوطنية المتحدة 1955م، والتي كان لي شرف الانتماء إليها متأخراً كعضو في هيئتها التنفيذية العليا، والجبهة الوطنية المتحدة هي التي رفعت شعار 'الجنوب اليمني' لأول مرة، حين كانت التجمعات السياسية الأخرى ترفع شعاراتها 'الانعزالية' على النحو الآتي: عدنية وعدنيون / جنوبية وجنوبيون/ عربية وعرب"
(**)
في استعاداته لسيرة حياته الباكرة، يجعلنا المرشدي نعيش تفاصيل دقيقة من رحلته الشاقة في الحياة، التي ابتدأت بمولده في بيت شعبي في حافة القحم بالشيخ عثمان في نوفمبر 1929 لأم صومالية تدعى "عورلا عبدي"، جاءت إلى عدن طفلة برفقة عائلتها، وأب ينحدر من معافر "الشويفة" في الحجرية، وجاء إلى عدن هرباً من عذاب الإمامة، وفي عدن جُنِّد الأب سخرة في الجيش التركي في فترة مرابطته بمنطقة لحج والشيخ عثمان في ذروة الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، قبل أن يصير عاملاً بالأجر اليومي في إحدى شركات الملح بالحسوة.
ماتت والدته، التي لم تلقنه هو وأخواته اللغة الصومالية، وهو طفل صغير، ففقد جوانب كثيرة من سعادته، التي لم يستطع الأب الفقير تعويضها، وأراد الطفل النحيل والصغير تعويضها بالتعليم حتي يصير كاتباً حكومياً (كرانياً)، كما كانت تحلم به الأم.
من المعلامة إلى المدرسة الحكومية الابتدائية في الشيخ عثمان، ثم إلى المدرسة التبشيرية في المنطقة ذاتها بعد رفضه في المدرسة المتوسطة الحكومية في كريتر، غير أن المدرسة أقفلت أبوابها وهو في السنة الأولى. انتقل إلى مدرسة "البادري" في كريتر، ولم يستطع المواصلة بها لفقرِه، ثم الدراسة في مكتب صالح حسن تركي لتعليم اللغة الإنجليزية، وهذا الأخير هو جد الفنان، والموسيقي إسكندر ثابت لأمه، وقد كان يهوى الموسيقى ، ويؤلّف الأغاني، ويعزف على الكمان، ويغنّي أيضاً، وربما هذا من فتح أفق الفن والغناء عند المرشدي حين كان مولعاً بكرة القدم، ويلعبها بمهارة ضمن فريق الشبيبة (الواي).
أثناء دراسته في مكتب التركي، تحصّل المرشدي على وظيفة ممرض في المشفى الهندي، لكنه بعد عام استقال بعد أن كان قد تزوج، وهو في السادسة عشرة، من فتاة عدنية، أنجبت له ولده البكر في 1948م الذي اسماه "علي"، وصار يكنَّى به حتى وفاته.
بعد أن وجد نفسه في الشارع من جديد، تقدّم إلى وظيفة في شركة أرامكو في الظهران، بواسطة أحد مكاتب الخدمات في كريتر، لكنه لم يمكث طويلاً هناك بعد إصابته بالتدرّن، فعاد إلى عدن، وبقي عاما كاملا يتعالج من مرض السُّل.
في العام 1951م، انتقل إلى العمل مديراً لمكتب نائب سلطنة الفضلي في زنجبار (أبين)، لكنه في العام 1953م قرر الاستقالة من عمله في السلطنة، وعاد إلى الشيخ عثمان، فتدبّر له صديقه الأديب والسياسي محمد سعيد مسواط عملاً في مدرسة النهضة العربية، لكنه سرعان ما عاد من جديد إلى العمل مع السلطان عبدالله بن عثمان في أبين، بطلب من الأخير الذي زاره في مسكنه بالشيخ عثمان. بعد فترة ليست بالقصيرة، ترك السلطان، وعاد إلى عدن، بعد أن وجد السلطان منزوع الصلاحيات.
في تلك الفترة، تزوج بامرأة ريفية بسيطة من قرية أبيه، وبقيت معه حتى نهاية العمر. ويقول عنها: "لقد استطاعت تلك الفتاة الريفية أن تنسيني نفسي، ناهيك عن حبي القديم، لما غمرتني به بفيض من البنين والبنات، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت"، ص 40.
بعد تلك المرحلة انتقل إلى العمل في شركة "Bp"، حتى عشية الاستقلال في العام 1967، بالرغم من أنه قد صار نجماً لامعاً في سماء الطرب في عدن وعموم اليمن.
يلخص المرشدي معركته الشرسة مع الحياة حتى هذه المرحلة(*) بقوله: "إلى هنا وتنتهي معركتي مع الوظيفة الكتابية، وكان التحدي هو الذي حقق انتصاري عليها رغم حرماني من التعليم، ورغم الفقر المدقع، والصحة المفقودة. وهذا الانتصار يعد انتصاراً على السياسة الاستعمارية في التعليم، وسقوط الكثيرين من أبناء الفقراء المتفوقين في الطريق، ولو لم أسلك طريق التحدي معتمداً على مواهب توافرت في أكثر من مجال، وصمودي أمام الفقر المخيف، لكنت أي شيء على هامش الحياة" ص 33.
(**)
ما يلفت الانتباه في كتاب المرشدي "الغناء اليمني القديم ومشاهيره" نباهة الباحث وثقافته الموسوعية فيما يتصل بخصائص الموضوع المقارب، ابتداء من إحاطته بموضوع الغناء العربي كمدخل عام للقراءة، منطلقاً من قاعدة أن "الغناء والشعر {عند العرب} يؤلفان وحدة متكاملة من حيث أنهما يشكلان مفهوماً واحداً، على اعتبار أن العرب في العصور القديمة، وحتى العصر الأموي، كانوا يطلقون لقب الشاعر على المُغنِّي، ويطلقون لقب المُغنِّي علي الشاعر" ص16، وإن الغناء مرتبط أصلاً بوجود الإنسان نفسه، وملازم له من مطلع شمسه حتى هجوعه في فراش نومه؛ مستنداً في ذلك على قول صاحب كتاب "الشعر الشعبي العربي"، الدكتور حسين نصَّار:
"لقد عاش الغناء مع العربي حياته كلها، منذ ترنيمة المهد إلى مرثية اللحد، فاحتفل بكثير من أحداث حياته الخاصة والعامة، فأنشد الأناشيد، وشدا بالأغاني، وذاع عنده الغناء الفردي والأهازيج الجماعية" ص 17.
أما خلاصة رأي الباحث، تتكثف عنده في أن الغناء هو أصل الشعر لدى الانسان إجمالاً، وقد أصبحا توأمين يؤلفان نسيجاً واحداً لا يستغني أحدهما عن الآخر، كما أن الغناء هو أصل الموسيقى.
في الغناء اليمني لم يجد المؤلف سياقاً للدخول إليه أفضل مما ذكره صاحب الأغاني (أبو الفرج الأصفهاني) بقوله: "إن غناء أهل اليمن يرجع إلى 'علس بن زيد ذي جدن'، فقد زعموا أنه أول من تغنّى باليمن، وأنه كان من ملوك اليمن. لقب بذي جدن لجمال صوته. فالجدن الصوت الحسن عند أهل اليمن" ص 30.
وعند الدكتور حسين نصار أيضاً يجد إشارة مهمة إلى ذلك حين يقول: "وهب اليمنيون الفنون الشعبية أدباً رائعاً خالداً، كانوا يتغنّون به في كل موطن حلواً به قبل الإسلام وبعده"، ص33.
ينقل المرشدي عن صاحب كتاب "اليمن من الباب الخلفي- 1959"، الألماني هانز هالفرتز، قوله: "تختلف موسيقى الجنود اليمانيين عن الموسيقى العربية المألوفة، ولموسيقاهم - التي اجتذبت وأفرحت الكثيرين من الذين يجهلون الموسيقى الشرقية- ففيها تنوّع في اللحن، وانتقال في الدرجات الموسيقية، ومن الغريب أن ثمة تشابهاً كبيراً بين الألحان في أغاني الجنوب العربي وبين الموسيقى البربرية {الأمازيغية}، فالخصائص الموجودة في موسيقى جنود اليمن توجد أيضاً في الموسيقى البربرية {وخصوصاً ما يتصل} بطريقة إنشاد الأغاني"، ص37.
يرى المرشدي في ألحان الموشح اليمني في صنعاء (الأغنية الصنعانية)، أو الموشح في حضرموت ألحاناً منظمة راقية المستوى، أبدعها فنانون لهم صلة وثيقة بالغناء، وتختلف نغمياً عن سائر الأنغام التراثية في البلاد العربية من حيث التراكيب الموسيقية والصياغة اللحنية.
تأثير الأتراك في الموسيقى الصنعانية كان ضعيفاً للغاية حسب رأي المرشدي، على العكس مما هو مفهوم عند كثيرين، ولم يصل هذا التأثير إلى جوهر البنية اللحنية للغناء اليمني وتحديداً في الموشح، حتى إن الفنانين الأتراك والملحنين والشعراء الأتراك أو المنحدرين من أصول تركية، مثل حيدر آغا، صاروا جزءا من الموسيقى اليمنية.
التأثير التركي المباشر ربما كان في الموسيقى العسكرية، من خلال إدخالهم آلات النفخ النحاسية، لتصير وظيفتها بروتوكولية ومناسباتية.
الفولكلور الغنائي اليمني، والغناء المغنون في صنعاء يصيران كموضوعين في كتاب "الغناء اليمني القديم ومشاهيره" فصلاً ثالثاً، تتبّع فيه المؤلف في الأولى الكثير من المشافهات الملحونة، التي صارت تجري على الألسن على هيئة أغنيات (غناوي) في صنعاء ومحيطها، أو "ملالات" (المقاطع الصوتية والأبيات التي تبدأ بكلمات ألا ليه ليه ليه)، التي كثيراً ما ترتبط بأصوات النساء، مثلها مثل المهاجل التي ترتبط بأصوات الرجال في اليمن الأسفل، والبالة التي ترتبط بالسمر والأفراح في اليمن الأوسط، والزيفة (غناء جماعي راقص في تهامة وخاصة عند النساء)، والشبواني والدان إلى جانب الرزيح والهزيج في حضرموت.
وفي الثانية (الغناء المغنون في صنعاء)، وفيه يتتبع مسألة التحريم والتسفيه للغناء والمغنين في عهد الإمامة، وكيف أن المنشدين استخدموا النصوص الصوفية الشائعة، ومزجوها بألحان الموشحات المعروفة، وقدموها في المناسبات لكسر حاجز التحريم للفن.
في الجزء الثاني من الكتاب المعنون "مشاهير الغناء اليمني القديم" يعرض المرشدي تجارب الفنانين والملحنين: سعد عبدالله، سلطان بن الشيخ علي، أحمد فضل القُمندان، علي أبوبكر باشراحيل، أحمد عبدالله السالمي، محمد جمعة خان، قاسم الأخفش، عمر غابة، صالح العنتري، ابراهيم الماس، عوض المسلمي، أحمد عبيد قعطبي ،عبدالقادر با مخرمة، وهي الأسماء التي أسست للتنوع الغنائي في اليمن في وقت كان الانغلاق والتحريم هو السلاح الفتاك بأيدي الحكام.
(*) لضيق المساحة لم أعرض بقية فصول الكتاب، المتصلة برحلة المرشدي الفنية، ومواقفه السياسية، مؤجلاً الأمر إلى مقاربة مستقلة.
(يتبع)