مقالات

"النار تضطرم نورا

14/08/2023, 10:37:22

في لحظة فارقة، بالغة الجبروت في صِدَاميتها بين جمرة الذات ورماد الواقع، أقدم الأديب الفيلسوف الفذّ أبو حيان التوحيدي على تكديس كتبه وأوراقه ومخطوطاته في كومة واحدة، ثم أضرم فيها النار!

كان الليل يشتعل في مشهد مأساوي بالغ البشاعة، عجزت عن بلوغه كل مآسي الإنسانية التي صوَّرها الأدب الأغريقي وجسَّدها المسرح الروماني على مرّ التاريخ.

وكانت الأضواء الناجمة عن الحريق تخفت شيئاً فشيئاً، كما تخفت جذوة الروح في الجسد الآيل إلى حتمية الموت، بعد صراع مرير مع الأمل الأخير في إمكانية التشبُّث بخيط الحياة الأوهن من نسيج العنكبوت.

وفي أزمنة وأمكنة أخرى، تتكرَّر المأساة نفسها في مشاهد أخرى:

الإمام الصوفي داؤود الطائي يرمي كتبه في البحر لتؤول إلى مستقرّ الغرق.

الشيخ الجليل يوسف بن أسياط يحمل كتبه إلى غار في جبل ثم يسُدّ بابه عليها.

شيخ الإسلام سفيان الثوري يمزق كل مخطوطاته وأوراقه ويذروها للرياح.

العالِم الزاهد أبو سليمان الداراني لجأ إلى إحراق كتبه على نهج التوحيدي.

أما العالِم النحويّ أبو سعيد السيرافي فقد أوصى ولده بأن يحرق كتبه اِنْ لم تعد عليه بفائدة من اكتساب معاش.

كانت الساحة الواسعة في أحد أسواق قرطبة تزدحم بالجمهور الذي جاء مشاهداً وشاهداً على واحدة من أقذر الجرائم في تاريخ الحكومات الإسلامية: حاكم يحتفل بإحراق باقة خلاقة من الكتب هي ثمرة جهد وعصارة فكر واحد من أعظم الفلاسفة في التاريخ العربي والإسلامي بل وتاريخ الإنسانية إجمالاً.

في تلك الساعة، وفي تلك الساحة، اللتين دخلتا صفحات التاريخ من بوابته السوداء، بوابة اللعنة الأبدية: كان أمير قرطبة وأشبيلية المنصور المُوحّدي يأمر بإحراق مؤلفات الفيلسوف العالِم العظيم أبي الوليد محمد بن رشد، في مشهد كرنفالي صاخب، كأنَّه الوجه الآخر لمشهد مسرحي خالد، حيث يُلقى بأناس مقموعين وأسرى مقهورين إلى حفرة هائلة يستقر في قعرها قطيع من السباع الجائعة أو التماسيح الشرهة!

وفي ختام المشهد الحرائقي، ذرَّت الريح الرماد الذي تحوّل إلى سماد في حقول العقول، على مرّ التاريخ الإنساني، إلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور وبجواري واحد من أعظم كتب ابن رشد.

لم يكن إحراق أبي حيان التوحيدي لكتبه وأوراقه كافياً لإبادته فكرياً. واِنْ كان هذا الأديب الموسوعي قد أخطأ في حق نفسه والأجيال من بعده، حين أقدم على اقتراف هذا الجُرم الشنيع، بعد أن بلغ به الإحباط والقنوط وشظف العيش حدَّاً قصيَّاً، حتى إنه صار يقتات من خشاش الأرض!

غير أن التاريخ قد أعاد تصويب هذه الحالة على نحوٍ بالغ الدلالة. فما وصل إلينا من المنتوج الإبداعي للتوحيدي، حتى اليوم، هو النزر اليسير مما نجا من الحريق أو كان متداولاً بين النخبة المستنيرة قبل ذلك اليوم المشؤوم. وبرغم ذلك، ها هو أدب التوحيدي يملأ رحاب التراث ورفوف المكتبات.

والأمر ذاته ينطبق على آثار تلك الجريمة التي طالت المنتوج العقلي لابن رشد. ما الذي أسفرت عنه أو أدت إليه؟

لقد كانت النسخ المخبوءة بين ثنايا الأفئدة وفي أعطاف العواطف وتحت أهداب المُحبّين، كفيلة بانبعاث فينيق الفكر من رماد الحرائق، لينطلق عبر العصور وبرغم أنف القصور، حتى يصل إلى الساحات العامة والأسواق الشعبية ومقاعد الدرس، متجاوزاً حدود الزمان والمكان والحدث.

أيُّ سلطان ذاك الذي استطاع يوماً أن يخمد جذوة التنوير في العقول، أو يقهر فكرة التثوير في القلوب؟

- لا أحد البتة!

- لماذا؟

لأن جسر الحضارة لم يُبْنَ يوماً من معدن أو خشب، إنما من أوردة وشرايين.

مقالات

الحوثيون في الاستراتيجية الإيرانية: تحول في ميزان الأدوار لا استبدال لحزب الله

تمثل تصريحات القائد العام للحرس الثوري الإيراني، اللواء محمد باكبور، مرحلة جديدة لإعادة تموضع إيران داخل ما تسميه طهران "محور المقاومة". يأتي هذا التموضع في سياق تصاعد الضغط الدولي على أذرعها التقليدية في لبنان والعراق، وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا، وتراجع هامش المناورة لدى حزب الله نتيجة انكشاف جبهته الشمالية مع إسرائيل، وتصاعد خطر حرب واسعة في الجنوب اللبناني.

مقالات

نتنياهو والالتفاف على خطة ترامب

لا أحد يعلم ما الذي يريده بعد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، من الإصرار على الاستمرار في اختلاق الذرائع لاستئناف الحرب على غزة، رغم قبوله باتفاق وقف إطلاق النار المبرم بمقتضى خطةٍ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ورؤية قمة القاهرة لإحلال السلام.

مقالات

السفر رفقة علي عنبة على ضوء القمر

علي عنبة كان الأجمل صوتًا والأكثر قبولًا بين كل فئات المجتمع، فشاركهم أفراحهم وأتراحهم، فقد كان منشدًا دينيًا مبدعًا أيضًا، ويمتلك كل عناصر الفن الأوبرالي والأوكسترالي.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.