مقالات

الهويات الصغرى والدولة والإنسان

21/02/2025, 08:05:57
بقلم : زهير علي

قد توجد أحياناً أصوات داخل الدّولة تحاول أن تنتصر للهويات الصغرى -إن صح التعبير- على حساب الهوية الجامعة، التي تؤسس للوحدة السياسية، وهناك أصوات من هذا النَّوع بدأت تعلو في السياق اليمني.

فإلى جانب دعوات الانفصال، التي يتبناها البعض بين شمال وجنوب اليمن، هناك دعوات أخرى، وهي تشير إلى ظاهرة موجودة فعلاً، بغضّ النظر عن حجمها أو تأثيرها، ومثال عليها القول إن مأرب سبئية، وإن على أهلها الاهتمام بشؤونهم، وأن لا علاقة لهم باليمن!!وبالمثل هناك أصوات محددة في حضرموت، وربما في مناطق أخرى.

والغريب في هذا السياق، هو محاولة القطيعة مع مسمى "اليمن" كمبرر تاريخي تستند عليه في موقفها ومطالبها، وتوظيف العامل الثقافي والتاريخي لخدمة العامل السياسي.

فمطالب الحفاظ على التميّز الثقافي لمنطقة، أو إعطاء الأولوية للشأن المحلي في المحافظة، أو حتى الإقليم، لا يعني عدم وجود مشتركات تجمعها مع المناطق الأخرى، ولا يعني في كل الأحوال عدم الانتماء للدَّولة بالضرروة..

وبالمثل، مطالب الاستقلال السياسي من طرف معيَّن، في السياق اليمني، يُفترض أن تقوم على العامل السياسي الذي يعبِّر عنها بصِدق، ولا يتطلب بالضرورة أن تُؤسس على اختلاف ثقافي، نحاول أن نخلقه بدون مبرر، مثل محاولات القطيعة الثقافية والتاريخية بين شطري اليمن سابقاً، وهي محاولات عقيمة وغير عقلانية أو مجدية، وتثير السخرية أحياناً عند بعض الباحثين الجادّين، وذلك في ظل التداخل والأبعاد التاريخية واللغوية والدِّينية والجغرافية والثقافية والمصالح المشتركة.

واذا كان أنصار هذا الاتجاه قد يجدون هنا أو هناك في الماضي البعيد بعض ما يُشير إلى التميُّز التاريخي، فبالمقابل يوجد أكثر بكثير في الماضي والحاضر ما يؤكد الارتباط، لذا يتوجَّب عدم تسييس الثقافة والتاريخ، وتسمية الأشياء والمطالب السياسية بمسمياتها -على الأقل.

ويبدو فعلاً أنه من المُمكن إيجاد مبررات لمثل هذه الدعوات، مهما كانت واهية بالمعنى التاريخي والثقافي، ومهما كانت واهية جداً بالمعنى الإنساني حسب رأينا، حيث يمكن أن يقول بعض الأخوة في الجنوب أيضاً "أنا حضرمي" أو"قتباني" أو "أوساني"، و"لا علاقة لي بحِميريي الضالع ويافع" مثلاً، وكذلك يقول البعض "أنا مذحجي ولا علاقة لنا بالبقية"، أو ربما "نحن من قبيلة، أو حتى أسرة كذا، ولا علاقة لنا أيضاً بالبقية"!، فليس هناك أي فرق في هذا المنطق على الإطلاق، وهو طرح بائس أيا كانت نواياه، سواء كانت متعلقة بالرّغبة في احتكار منطقة معيّنة ومواردها، أو كانت نيّة ثقافية هُويّاتية أو "هُووية" (حسب مصطلح فتحي المسكيني).

وأظنَّ أن هذا الطرح يظهر أكثر في حالات الانحطاط، ويتراجع في حالات التوازن والطموح، والرَّغبة في بناء وطن ودولة قوية كما كان يحدث قديما من توحيد لليمن الكبير، أو هذه المنطقة التي يريد البعض الغاء اسمها!، والأجدر أيضاً اختفاء هذا الطرح في عصرنا عند الرَّغبة في بناء دولة بمعنًى من المعاني الحديثة.

فالهُوية ليست تلك الصورة لمجموعة متجانسة بشكل مطلق وصافٍ خالٍ من أي تنوُّع، والدَّولة كذلك لا تُبنى على هذا الأساس.

فالإنسان صاحب الوعي والفكر والروح المميِّزة لا بُد أن يُنتج مجتمعات تتضمن تنوعاً داخل الوحدة، سواء في طريقة التعامل مع البيئة والتضاريس المتنوِّعة، أو مع الحياة ككل، وبالتالي سنجد دائماً تقاليدَ وتنوَّعا واختلافا، كما نرى عوامل ارتباط واتفاق أو توافق، سواءً على مستوى الدَّولة أو المحافظة، أو حتى المديرية والقرية -إن أردت.

ووفقاً لأستاذنا الدكتور المسيري وآخرين، فالهُوية المتجانسة بشكل مُطلق والصمٍَاء تعبِّر عن تصوّر مادي غير إنساني للإنسان نفسه، ولا تعبِّر عن الواقع، فضلاً عن بُعدها العُنصري حين تتحوّل إلى منظور أيديولوجي، تنافي حالة الإبداع الإنساني ولا تُراعي أيا من ظواهره (الهُوية الصَّلبة)، وأن الإنسان في التصوّر المتوازن والنَّقدي، بل وحتى الإيماني وفقاً له، ينفر من هذا التصوُّر أو يجد نفسه غالباً بعيدا عنه، ولا يقبل أن يصنِّفه الناس حسب العِرق أو حسب لون الشعر والعينين، أو غيرها!!

وبالمقابل، فهو لا يمكن أن يكون إنسانا بلا تاريخ، أو ثقافة، أو عادات، أو تميُّز، وكأنَّه كائن لزج، ومسخ يمكنه التحوُّل إلى أي شيء في لحظة فقط حسب الحاجة (الهُوية السائلة)، وإنما هو إنسان يعتدّ بتقاليده وتميّزه وبإنسانيّته، ولكنّه يتحرّك في دوائر متداخلة، فهو يمكن أن يكون مذحجياً من أسرة كذا، ويكون يمانيا، ويكون عربياً وإنسانياً، في حلقات تكاملية لا يلغي بعضها الآخر (يمنياً، وعربياً وأممياً) تماماً كما هو في  نشيدنا الوطني (الهُوية الفضفاضة، أو المتوازنة، أو الإنسانية).

وفي السياق ذاته تقريبا، وفي تقديمه لأحد كُتب المفكّر المصري جمال حمدان، يقول المسيري على لسان حمدان، مويداً له في تصوّره الإنساني للوحدة والدّولة: "إن الوحدة السياسية لا تنتج بالضرورة عن الوحدة الطبيعية (التي تفرضها التضاريس، أو الرابطة القبلية، أو أي اعتبارات مادية)، وإنما تقوم على الوحدة البشرية،  فالعِبرة في قيام دولة موحَّدة دستورياً هي وحدة الناس، والوحدة القومية هنا ستكون بمعنى تجانسهم في المقوِّمات الأساسية الكُبرى، من لغة مشتركة، وتاريخ ملتحم، ومصالح مترابطة أو مشتركة، وعقيدة سائدة، والوحدة السياسية هي وحدة وظيفية، وأي وحدة وظيفية لا تأتي من التوحٍد أو وحدة التركيب، وإنما من الوحدة المتنوِّعة التركيبية، فأي معنى وأي جدوى من اتحاد أقطار متشابهة منمطة في مواردها وإنتاجها وإمكانياتها، إلا أن يكون هذا التوحد النمطي عبارة عن تمدد أميبي عقيم!".

ويبدو أننا في مرحلة يحاول فيها المقتدون بالأميبيا الازدهار على حساب الإنسان اليمني الطموح، الذي لطالما كان يحلم بدولة قويَّة، تعزز من جوانب وحدتنا السياسية، ولا تلغي تنوّعنا، دولة تحترم شعبها ويحترمها العالم..

مقالات

الوقوع في إغراء السلطة

كان العلماء يتجنبون الوقوع في إغراء السلطة، كما كانوا يحاولون أن يبتعدوا عن الاختلاف معهم، ما لم يقع ذلك عن اضطرار. فقد أبى إمام كل مذهب أن يلي القضاء، وكان الخلفاء يرونهم أصلح من غيرهم، وهم ينأون بأنفسهم. أما ابن حنبل، فكانت قضيته أكثر تعقيدًا من مسألة القضاء؛ لأن المأمون انتمى إلى مذهب الاعتزال، وأراد أن يفرضه على العلماء، ولا سيما الأئمة منهم.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.