مقالات

الوقوع في إغراء السلطة

22/02/2025, 16:04:56

كان العلماء يتجنبون الوقوع في إغراء السلطة، كما كانوا يحاولون أن يبتعدوا عن الاختلاف معهم، ما لم يقع ذلك عن اضطرار. فقد أبى إمام كل مذهب أن يلي القضاء، وكان الخلفاء يرونهم أصلح من غيرهم، وهم ينأون بأنفسهم. أما ابن حنبل، فكانت قضيته أكثر تعقيدًا من مسألة القضاء؛ لأن المأمون انتمى إلى مذهب الاعتزال، وأراد أن يفرضه على العلماء، ولا سيما الأئمة منهم.

وقد وقع بين ابن حنبل والمأمون جدل طويل وعنيف، كان المأمون يقول: “يا ابن حنبل، أليس الله خالق كل شيء؟”

فيقول ابن حنبل: “نعم”.

فيقول المأمون: “هل القرآن شيء؟”

فيرد ابن حنبل: “إن القرآن هو القرآن، كما سماه الله”.

فيقول المأمون: “هل الذي سماه الله مخلوقًا؟”

فيرد ابن حنبل: “إنه كتاب منزل، كما وصفه الله، ولا أزيد ولا أنقص على ما قال الله”.

فيقول المأمون: “هل تخطئ من يقول إن القرآن مخلوق؟”

فيقول ابن حنبل: “إنما الحكم لله في هذا، وإنما أقول ما أعلم”.

وظل ابن حنبل متمسكًا بالنص حرفيًا، ولهذا سُميت قضية الاختلاف حول “هل القرآن مخلوق؟” بـ المحنة، وكان يقول: “اللهم جنبنا هذه المحنة”. وهذا ينطبق علينا اليوم في اليمن وما نعيشه تحت حكم المليشيات، إنها محنة عظيمة.

وسماها رجال السنة من بعده “محنة خلق القرآن”، وكان العلماء لا يرون بدعة في تسمية القرآن مخلوقًا، أما ابن حنبل فلم يجد في هذا نصًا قرآنيًا أو نبويًا، وكان لا يقبل الرأي إلا في الأحكام إذا لم يجد دليلاً من الكتاب أو السنة، وكان يقول: “إن رواية ضعيفة أفضل من مائة رأي مصيب”.

وكان المجتمع المثقف ينقسم إلى قسمين:

• منهم من يتعاطف مع ابن حنبل.

• ومنهم من يراه غير مفكر، يستخلص دليلاً عقليًا فيقبل مسألة خلق القرآن.

وكان الفهماء يعرفون أن هذه المسألة مفتعلة لغاية سياسية، وذلك لأن المأمون كان واسع الثقافة، قوي الحجة، ولهذا تمكن من استحداث ما يشغل المثقفين عنه، وينسيهم موقفه، من افتتاح بغداد وأحداث الحرائق فيها، حتى تمكن جيشه من قتل أخيه الأمين، ووضع المأمون خليفة. وكان قائد المأمون، طاهر بن حسين الخزاعي، مشهورًا بالحصافة والشخصية؛ لأنه أشجع قومه.

قال ابن خلكان: “كان المأمون في خراسان حين حضره من يخبره بموت أبيه الرشيد وقيام أخيه محمد الأمين بالأمر بعد أبيه عن بيعة رجال أهل الحل والعقد، وكان العرب والذين ينحازون إليهم يؤيدون الأمين، لأن أمه الملكة زبيدة بنت جعفر، ذات السمعة العطرية والكرم، وأبوه هارون الرشيد”.

أما المأمون، فهو أخو الأمين من الأب، على جارية فارسية، ولهذا تعصب له الفرس ومن يذهب مذهبهم في كراهية توارث العرب الحكم؛ لأن الحكم إسلامي، لا بيتي. وكان المأمون يجد أشياعًا من الفرس لسببين:

1. السبب الأول: أنه سيقوم على مقتل أخيه، وبهذا يسبب سفك الدماء في البيت، فيضعف الخلافة العباسية.

2. السبب الثاني: شهرته بالعلم، وشهرة أخيه بالجهل والمجون.

وكان العرب ومن يؤيدهم يرون عدم صلاحية الأمين، لضعف شخصيته وانغماسه في اللهو، لكن اغتصاب المأمون للخلافة سيفقد عاصمة الإسلام مهابتها، كما كان الفرس على أمر ذكرى من نكبة البرامكة، الذين طار صيتهم بالجود والحزم السياسي والخبرة الإدارية، وقد تحملوا عن الرشيد مهمة الحكم حتى شك في طموحهم إلى الخلافة، فبطش بهم.

وجاء المأمون متجنبًا العصبية واشتدادها بين العرب والفرس في عصره، فقرّب شيوخ الاعتزال منه، وقال بقولهم في خلق القرآن، عليمًا بما سيثير هذا من خصومة عقلية وجدال فكري وفقهي، فقبل الناس أن تظاهروا بالقبول أو سكتوا عن إبداء رأي، ولم يثبت جهارًا من أهل السنة إلا أحمد بن حنبل، صاحب أهم موسوعة حديثية، وهو كتاب “مسند أحمد”، وكان يعتمد فيه على ثلاثة مقومات:

1. صحة السند.

2. سلامة المتن.

3. شيوع الحديث بين الناس.

وكان أول من اعتبر الشيوع دليل قوة الحديث وعدم الطعن في روايته. وكان رجال الأمهات الست قد هيأوا المرجعية للأحاديث الصحيحة وللفتوى بها، وكانت المذاهب الدينية السائدة في العراق يومذاك ثلاثة: المالكية، الشافعية، والحنفية، ثم ابن حنبل.

فاشتد الاختلاف بين المتمذهبين في بغداد، أما في خارج بغداد فقد تعددت الانتماءات، كالزيدية، وبالأخص في طبرستان، حيث قامت خلافة من الزيدية ما لبثت أن تفوقت واتسعت، ثم تعاونت مع الأدارسة الذين أقاموا دولتهم في المغرب، ثم بهادوية اليمن عندما قامت دولة الهادي الرسي في آخر القرن التاسع الميلادي.

ولما قويت الخلافة الفاطمية في المغرب وامتدت إلى تونس، تمكنت من افتتاح مصر، فأصبحت تقاسم العباسيين حكم العالم الإسلامي، إذ امتدت دولتهم من صعدة إلى القيروان والمهدية.

وكان ابن حنبل لا يدعو إلى مذهب، وإنما كان يدعو إلى السنة والجماعة، والتزام العلم الصحيح الذي تعريفه: “قال الله، قال رسوله، ليس غير”.

إلا أن ابن حنبل أصبح رمزًا عاليًا للأحرار، لأنه تمسك بحرية اعتقاده، ولما ألحق به المعتصم، الأخ الثاني للمأمون، عقوبة الجلد، علت مكانته، وتألق اسمه كأحد أهم أحرار الفكر في العصور الإسلامية، فأصبح في عصرنا موضع الدراسة الفكرية، لأنه قاتل عن فكرة، وتحمل المكاره في وجه سلطة قوية عنيفة.

وبهذا امتلك بعدًا ثالثًا إلى البعد الديني وصحة النهج النصي.

قال المؤيد في كتابه “المجالس”: “لقد أصبح أبو عبد الله آية على التزام أقاويل ابن عبد الله”، يريد بابن عبد الله محمد رسول الله، وبالاسم الأول صاحب المذهب والموقف الحر.

وكان أهل بغداد، وأول السنة منهم، يقيمون ذكرى أحمد بن حنبل في كل عام، ويزورون قبره كل عيد وجمعة، مرددين:

“طاب وتبجّل أحمد بن حنبل”.

مقالات

الهويات الصغرى والدولة والإنسان

قد توجد أحياناً أصوات داخل الدّولة تحاول أن تنتصر للهويات الصغرى -إن صح التعبير- على حساب الهوية الجامعة، التي تؤسس للوحدة السياسية، وهناك أصوات من هذا النَّوع بدأت تعلو في السياق اليمني.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.