مقالات

اليمن.. السهل يستعيد إرثه

09/03/2021, 08:04:57
بقلم : محمد صلاح

كان وما زال للبيئة المحلية الدور الأكبر في توجيه مسار التاريخ الحضاري، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي لليمن، فطيلة الألف الأول قبل الميلاد، كانت مناطق الوديان الشرقية قد شهدت استقراراً طويل الأمد، وعرف البلد حينها قيام الدولة، وبناء العديد من المنشآت الاقتصادية، مثل بناء السدود المائية العملاقة، ومساقي المياه، واستصلاح الأراضي الزراعية، وشق وتعبيد الطرقات.

وإذا كانت مناطق المرتفعات، والجبال هي الموطن الأول للزراعة والاستقرار، التي منها بدأ الانتشار في حوالي الألف الرابع قبل الميلاد، إلى مناطق الوديان المنخفضة في المناطق الشرقية، فإنها لم تتمكن من إنشاء الدولة، وذلك لتشتت القرى، وتناثر السكنى، وعدم قدرة البيئة الجبلية على احتضان أعداد غفيرة في مدن كبيرة، بينما مكّنت منطقة الواحات على ضفاف الأودية حول "مفازة صيهد"، مع التطوّر التدريجي الذي عرفته منذ الألف الثالث قبل الميلاد لأنظمة الرّي والزراعة، من توفير الغذاء لأعداد كبيرة من السكان القادمين من الجبال والمرتفعات. 

لقد ساهمت البيئة السهلية المفتوحة، التي تميّزت بها الوديان الوسيعة في المناطق الشرقية من اليمن، في نمو المُدن، وقدرتها على دمج الأعداد الكثيرة في بوتقة واحدة، مما دفع -مع بدايات الألف الأول قبل الميلاد- لظهور الكيانات السياسية، ونشوء الدولة في اليمن القديم، في المناطق المحيطة ب'مفازة صيهد'، قبل نشأتها في الهضبة الوسطى ذات الأمطار الوفيرة، والتربة الخصبة والغنية بالمواد العضوية.

لقد كانت دوافع البيئة السهلية تدعو إلى قيام حكومة مركزية أكثر ثباتاً واستقراراً، على عكس مناطق الهضبة والمرتفعات التي تعددت فيها مراكز الحُكم، عندما انتقل إليها الثقل السياسي مطلع القرون الأولى للميلاد، التي شهدت الكثير من الاضطرابات والحروب التي كان خاتمتها انهيار الحضارة اليمنية، وذلك بسبب الصراعات على السلطة بين الأقيال والأذواء الذين ساعدتهم الطبيعة الجغرافية للجبال، وصعوبة التضاريس، وأغرتهم على التمرّد والانفراد بحُكم مناطقهم بعيدا عن سلطة الحكومة المركزية.

إن العودة إلى الجبال والمرتفعات في اليمن قد تنامت مع عدد من المتغيّرات الخارجية، حيث شهدت اليمن عام 24 قبل الميلاد الغزو الروماني الذي قاده 'إليوس جاليوس'، قائد الإمبراطور الروماني في مصر، اضافة إلى اكتشاف سر الرّياح الموسمية من قبل الرومان، الأمر الذي ساهم في نشاط التجارة البحرية، وفقدان المناطق الشرقية أهميتها الاقتصادية، بحيث إن التحوّل في خطوط التجارة من البر إلى البحر منح المناطق القريبة منها فرصة النمو الاقتصادي، وساهم في تعزيز قوتها، الأمر الذي عزز لديها طموح السيطرة على بقية المناطق وإخضاعها لسلطتها، وقد تحقق ذلك لدولة حِمير، حيث كانت أكبر المستفيدين من تلك المتغيّرات، وأضعف بقيّة الكيانات في المناطق الشرقية، مثل: سبأ، وحضرموت.

عندما انتقل مركز الثقل أوائل العصر الميلادي من السهول إلى الجبال، كان 'درب أسعد' والمقصود به "أسعد الكامل"، الذي يمتد من عدن إلى صعدة - الخط العام حاليا- كان أكثر ما أعطى مناطق الجبال أهميتها، وبطوله نشأت مُدن المرتفعات اليمنية، ولا تكاد تنقطع القرى أمام عيون المسافرين.

وقد فقدت مُدن المشرق قيمتها، وأهميتها بسبب تحول دروب التجارة الداخلية، وهجرة القوافل الطريق القديم الذي يخترق مُدن: شبوة والجوف ومأرب....الخ، الأمر الذي انعكس سلبا عليها طوال الألف والخمسمائة عام الأخيرة.

لقد كان ظهور 'سبأ'، وبروز 'مأرب' في الألف الأول للميلاد هو العلامة الأولى لظهور الدولة في اليمن القديم، إذ ترجّح الشواهد الأثرية أسبقية ظهورها، "حيث ذكرت البعثة الألمانية أن أساسات سد مأرب تعود -على الأقل- إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد". كما بيّنت أبحاث المعهد الألماني أن منطقة مأرب قد شهدت رياً زراعياً منتظماً في الألف الثالث قبل الميلاد. وسد مثل سد مأرب لا يمكن أن تشيّده إلا دولة ثابتة الأركان، بحسب الدكتور يوسف محمد عبدالله. 

وكان قيام السد من أهم عوامل نشوء المدينة وازدهارها، وكان العامل الآخر وقوع المدينة على الطريق البريّة للقوافل التجارية، بل كانت هي عقدة طريق اللبان الشهير، الذي كان يربط بين مناء 'قنأ' على بحر العرب وميناء 'غزة' على البحر الأبيض المتوسط.

وقد أرجع البعض سبب قيام الممالك حول 'رملة السبعتين' إلى الرغبة في السيطرة على الطريق التجاري، الذي كان يخترق تلك المناطق، غير أن هذه الإجابة قد تكون مهزوزة إذا عرفنا أن الطريق التجاري جاء نتيجة لوجود وقيام الممالك اليمنية، كما يرى 'البحَّاثة' الإيطالي أليساندرا أفانزيني، حيث يرى أن "دول جنوب الجزيرة العربية كانت تتواجد على الأودية في اتجاه الصحراء، لكون هذه الجهة الوحيدة التي يمكن للزراعة التواجد فيها بشكل مكثَّف، وذلك بفضل المحافظة على المياه عن طريق بناء السدود. وكانت طرق القوافل تعبر هذه المنطقة، نظراً لتواجد دول الجزيرة العربية هناك" [أليساندرا أفانزيني طرق اللبان وممالك جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام، مجلة الدراسات العُمانية، المجلد12، ص9].

تمكّنت دولة 'سبأ' خلال القرون الأولى من الألف الأول قبل الميلاد من توحيد اليمن، وإدخال كافة المناطق تحت سلطتها.

وقد كان السبئيون يعبرون عن انتمائهم للشعب، شعب 'سبأ كهلان'، وكانت رابطة الشعب رابطة مدنية، رابطة مواطنة قانونية، وكان تعبير الانتماء لدى 'سبأ' للشعب أكثر من تعبيرها للانتماء للمدينة. 

حيث "بقي سكان مأرب يسمون أنفسهم بالسبئيين وليس بالماربيين" [الدكتور محمد مرقطن العاصمة السبئية مأرب - دراسة في تاريخها وبنيتها الإدارية والاجتماعية في ضوء النقوش السبئية ص128].

ومن وجهة نظر صاحب السطور، فإن معركة المستقبل في اليمن قد حسمت -خلال السنوات الماضية- من خلال عودة السهول لتصبح مركزا جديدا، والنزوح والنزول من الجبال إلى السفوح الوسيعة، التي كانت المنطلق الأساسي والرئيسي لبناء الدولة اليمنية، التي شهدت قرونا من الاستقلال والاستقرار، بعد أن فقدت هذا الدور منذ القرن الثالث الميلادي، والذي تحول فيها مركز الثقل نحو الجبال، هي إحدى العلامات الفارقة على حقيقة التغييرات في الجغرافيا السياسية، وتشكيل خارطة اليمن الجديدة. فمعركة المستقبل -التي أتحدث عنها- ليست معركة السلاح ولا القوّة، حتى وإن ظن البعض أنها العامل الحاسم في اللحظة الراهنة، غير أن اي استقرار في السهول كفيل بإعادة بناء دولة يمنية مستقرة خلال العقود القليلة القادمة.

فمعركة المستقبل في اليمن قد حسمت، لصالح قوى التغيير، على المستوى البعيد (العقدين القادمين)، بصورة تفوق ما كان يتوقّعه شباب فبراير، أو قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج، وبعيدا عن جولات القتال الدائرة ونتائجها، أو مفاوضات السلام -إن حصلت-، فإن التغيير الأكبر في اليمن قد بدأ ولن تستطيع نتائج المعارك أو المفاوضات أن تقف عائقا أمامه، ولن تتمكن الجبال من إزاحة هذا الدور مطلقا، الذي ساعدت عليه في أوائل العصر الميلادي عدد من العوامل، التي كان من أهمها فقدان تلك المناطق أهمية دورها على خطوط التجارة البرية، لصالح التجارة البحرية، حيث باتت هذه المناطق اليوم تحتضن أهم المنشآت الاقتصادية العملاقة في البلد، وتختزن في طياتها الثروة القادرة على بناء اليمن مجددا.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.