مقالات
اليمن: بين الاستبداد والاستبعاد
في العديد من مراحل التاريخ المختلفة، ظلت اليمن عالقة بين الاستبداد، والاستبعاد، والأخير هو الغالب على طبيعة التاريخ السياسي للبلد، والمحرّض على الصراعات، حيث ظل الاستئثار بالحُكم والسلطة واستبعاد المكوّنات الأخرى من الشراكة، من قبل بعض القوى هو المحرّك الفعلي للانتفاضات، والتمرّد على الحكومات، أما الاستبداد فلم تكن حظوظه حاضرة على المشهد اليمني بتلك القوة، التي عرفتها المجتمعات الأخرى، وذلك ليس لأن اليمن لم تعرف الطغاة، ولكن لأن الحاكم الطاغية لم يكن بإمكانه أن يفرض مشيئته على اليمنيين، وإن استطاع أحد الحكام التفرّد فلم يكن بوسعه الاستقرار في السلطة.
قامت الحضارة اليمنية على تعدد المراكز، فلم يكن هناك مركز مُهيمن بمفرده على بقية المراكز، لذلك ظل الاستقرار طويل الأمد، الذي شهدته هذه الأرض الطيبة في عصورها الحضارية القديمة، مرهونا باعتراف المركز بدور بقية المكونات المجتمعية في الشراكة مع المركز في إدارة الدولة، وحين كان المركز يستأثر بالمنافع، ويستحوذ على السلطة، دون إشراك بقية المناطق، فإن الأخيرة كانت تبادر إلى الخروج عن المركز، والتمرّد على سلطته.
إن المركز، الذي جمع كل السلطات بين يديه في اليمن خلال العقود الماضية مع أول ضعف حصل به، قاد إلى هذه الكارثة.
فالمركزية هي الحاضن الفعلي للانفصال، ونشوء الدعوات الجهوية، وبروز النزعات المذهبية، وذلك بسبب سعي المركز - أيا كان موقعه ووجوده - لمحاولة تهميش الأطراف، خشية أن تسعى لمنافسته، ومزاحمته على ما يراه حقا له، الأمر الذي كان - ومازال - يدفع بقية القوى الأخرى للخروج عليه.
بينما يعد النظام الاتحادي حاضناً للتعدد، والتنوع، ومن هنا يغدو هذا النظام لبلد كاليمن حارساً للكيان الوطني وبقائه متحدا، لأنه يسمح لجميع المكونات الاجتماعية بالمشاركة، والتعبير عن ذاتها، والاحتفاظ باستقلاليتها ضمن الإطار الوطني الواسع، بعيدا عن الشعور بالتهميش أو الاستبعاد، وما يشكله ذلك من ردود فعل تكون نتائجه سلبية، وخسائره باهظة على المستوى الوطني.
قد تكون المخاوف من النظام الاتحادي، الذي تبديه بعض القوى، هواجس لا مبرر لها، فالأقاليم والمناطق لا تستطيع في اليمن - متى استقرت الأوضاع، ومهما امتلكت من استقلالية إدارية في مناطقها- أن تنفصل عن الحكومة الاتحادية في المركز، أو عن الأقاليم المجاورة لها. فالتجربة التاريخية علمتنا أن كل منطقة أو إقليم في البلد لا يمكنه أن يعيش مستقرا إلا متى ظل مرتبطا مع بقية الأقاليم في كيان جامع، وحكومة وطنية واحدة، وبدون ذلك فإن الصراعات ستظل متفجرة داخل كل إقليم على حِدة، وتظل الحروب مشتعلة داخل كل منطقة، فقد كشفت الحرب الدائرة في البلد - ولنا فيها عظة وعبرة -، خلال السنوات الماضية أن كل منطقة غير قادرة على الحياة المطمئنة منفردة، أو مستغنية عن التكامل مع من حولها، وأن آثار الصراع لن تكون محصورة في مكان محدد دون أن تنتقل إلى غيره.
لا تحتاج اليمن، في هذه الفترة، سياسيين ولا قوى تتحدث بعقلية الزعامة، والقيادة، والرقص على رؤوس الثعابين، بلادنا تحتاج إلى قيادة بعقلية "حائك البرد"، لأنه يستخدم جميع الخيوط الموجودة ليحُوك منها رداءه، فتدخل بألوانها المختلفة، وتشكيلاتها المتنوعة، لتخرج إلى الوجود "حلة قشيبة".
بلادنا متعددة ومتنوعة، ولا يصح أن يتم اختزالها في طرف أو طرفين. ولكي تشعر بقية مكونات المجتمع بالطمأنينة وبعدم إقصائها، فمن الواجب إشراكها في إعادة بناء الدولة.
من الصعب بناء تحالفات سياسية، واجتماعية مغلقة، سواء على أساس قبلي، أو مناطقي، أو مذهبي، أو سلالي تهدف إلى فرض مشيئتها على الجميع في تحديد نمط نظام الحُكم، فرغم ما تمر به البلد من ظروف مأساوية وحروب متناسلة ومتعددة، إلا أن الوقائع كلها تشير إلى عُقم وفشل كل الدعوات الجهوية، والمذهبية في تأسيس تحالفات راسخة لإدارة الصراع، والانتصار على بقية الأطراف، ففي بلادنا "لم تكن عصبيةٌ واحدة، مهما كانت حماستها، تكفي لإقامة دولة أو للاستيلاء على السلطة في البلاد، وإن نجحت في إقامة كيانات سياسية هامشية، بل كثيرا ما استعان المؤسسون وأقاموا دولهم بالاعتماد على عصبيات أخرى غير عصبيتهم" [أحمد الأحصب هوية السلطة في اليمن]..
لقد باتت اليوم التحالفات ذات المشاريع الوطنية العابرة للاصطفافات الضيقة وحدها القادرة على النجاح وكسب الرهان، والتأييد الشعبي، والتعبير عن تطلعات الغالبية العظمى من أبناء المجتمع في بناء المستقبل، وتحديد الطريق التي يسلكونها بدون وصاية من أحد. وواهم من يظن أن بوسعه استغلال الحيرة التي يعيشها اليمنيون في الوقت الراهن، وتحويلها إلى حالة عجز لفرض إرادته عليهم.