مقالات

اليمن بين ميراث الانقسام وفرصة الخلاص

15/08/2025, 12:49:39

لم تكن أزمة اليمن وليدة سقوط صنعاء بيد الحوثيين عام 2014، ولا حتى نتاج ارتباك ما بعد ثورة فبراير 2011.

فالجذور ضاربة أعمق بكثير، في تاريخ طويل من الصراعات السلطوية التي جعلت الدولة هشّة أمام أي مشروع عصبي أو طائفي يجد في الانقسامات الداخلية بيئة خصبة.

وعلى مدى عقود، عرف اليمن تكوينات سياسية واجتماعية متعددة، لكنها كثيرًا ما تحولت إلى عصبيات ضيقة تتغذى على إرث من الدم والمصالح، بدلًا من أن تكون منصات للعمل الوطني الجامع.

وحين غابت الدولة الجامعة، حضرت الولاءات الصغيرة: قبيلة، منطقة، حزب، مذهب، حتى صار الانقسام قاعدة والوفاق استثناء.

ومع صعود المشروع الحوثي، تجسّد التهديد الأكبر لليمن في نموذج سلالي مغلق يستند إلى أيديولوجيا إقصائية تسعى لتغيير هوية البلاد السياسية والثقافية. 

مشروع كهذا، بدمويته وتعنّته، كان يمكن أن يكون محفزًا لتوحيد القوى المناهضة له، لولا أن كثيرًا من هذه القوى كانت أسيرة لعقليات الأمس، فبدلًا من أن تتوحد على مشروع وطني واضح، انشغلت بتصفية الحسابات، وأعادت فرز الناس وفق ولاءاتهم السابقة لا وفق مواقفهم الراهنة من معركة استعادة الدولة. وهكذا وجد الحوثي نفسه، رغم ضعفه المجتمعي، أمام خصوم متنافرين يطيلون بعجزهم عمره السياسي.

لكن الأزمة لم تقف هنا. فهذا المشهد تعمّق مع غياب القيادة القادرة على إنتاج مشروع جامع. فالأحقاد لا تبني أوطانًا، لكن تجاوز الماضي لا يكون بإنكاره، بل بالاعتراف بالأخطاء من جميع الأطراف وفهم الدروس القاسية التي قدّمتها السنوات العشر الأخيرة. واليمن لا يحتاج اليوم إلى "مخلّص فرد" بقدر ما يحتاج إلى مشروع يولّد القادة ويمنحهم الشرعية من خلال العمل الوطني، لا العكس.

وعند اختبار القيادات، كانت النتيجة مُحبِطة. لقد جُرّبت معظم القيادات القائمة، وأثبتت التجربة أنها إما عاجزة أو منتفعة أو أسيرة لمصالح ضيقة، ومع غياب نموذج الدولة الحقيقية—دولة النظام والقانون والكرامة—ازداد عطش اليمنيين لأي مظهر من مظاهر السيادة، وأصبح الفراغ السياسي أكبر حليف للمشروع الحوثي.

إن الخروج من هذه الدائرة المغلقة لن يتحقق إلا عبر توافق القوى الوطنية المناهضة للحوثيين على رؤية واضحة لما بعد الحرب، تبدأ بمصالحة وطنية شاملة لا تستثني أحدًا ممن يقبل بأسس الدولة الجمهورية. 

وأول شروط هذه المصالحة أن يعترف الجميع بأخطائهم، وأن يتخلوا عن نهج الغلبة والإقصاء، لا تمييعًا للجرائم ولا تبريرًا للفساد، بل انتقالًا من عقلية تصفية الحسابات إلى عقلية بناء الدولة، ومن منطق الانتصار للفريق إلى منطق الانتصار للوطن.

ومن هنا تتحدد معالم المشروع الجامع. فهو ينبغي أن يعيد تعريف الشرعية بحيث تستمد قوتها من القدرة على مواصلة الطريق الكفاحي حتى تحقيق أهدافه الوطنية، وأن يعمل على تفكيك العصبيات ووقف الاستثمار السياسي في الولاءات الضيقة، وفتح المجال أمام كفاءات وطنية عابرة للحزبية والمناطقية، وأن يشرع في إعادة بناء المؤسسات، بدءًا بالأمن والقضاء باعتبارهما حجر الأساس لدولة القانون، وصولًا إلى صياغة ميثاق وطني جديد يضمن الشراكة في السلطة والثروة ويصون الهوية الجامعة.

وهنا تبرز حقيقة كبرى: الأوطان لا تنهض على ذاكرة الحروب، بل على إرادة السلام العادل الذي لا يقوم إلا بين شركاء يؤمنون بالدولة المدنية الجامعة، ويرفضون السلاح وسيلةً للسلطة أو أداةً لفرض الهيمنة. 

أما الجماعات المؤدلجة التي تحتكر الحكم باسم الحق الإلهي، وتُقسّم المجتمع على أسس طبقية أو مذهبية أو مناطقية، فلا سلام معها ولا مكان لها في مستقبل وطن يتسع لجميع أبنائه. واليمن، بما يحمله من عمق حضاري وثراء إنساني، لا يستحق أن يظل أسيرًا لرهانات الصغار ولا ملعبًا لتصفية الحسابات.

اللحظة التاريخية التي نعيشها لا تمنحنا ترف الانتظار، ولا تسمح بمزيد من الأخطاء، فالطريق واضح لمن أراد أن يسلكه: مشروع وطني جامع، يعلو على الأحقاد، ويعيد الاعتبار لاسم اليمن، وطنًا يليق بتضحيات أهله، ودولة تليق بتاريخهم، ومستقبلًا يليق بأبنائهم.

واليمن اليوم أمام لحظة اختيار حاسمة: إما أن تظل قواه السياسية أسيرة لخلافات الأمس فيستمر الانقسام مهما تغيّرت الوجوه، أو أن تدرك أن الخلاص لن يأتي إلا من مشروع وطني جامع يقوده وطنيون صادقون يعلون مصلحة اليمن على أي اعتبار آخر.

لقد طال زمن التجريب، واستُهلكت الشعارات، وتبددت الثقة، وما لم يخرج الفاعلون من هذه الحلقة المفرغة، فإن التاريخ لن يرحمهم، وسيسجل أنهم أضاعوا فرصة الخلاص في اللحظة التي كان الوطن فيها أحوج ما يكون إليهم.

مقالات

قمع الحوثي للمؤتمر.. ذعر وقائي

اقتحام الحوثيين اجتماع قيادة حزب المؤتمر قبل أسبوع، برئاسة صادق أبو راس، تأكيد مبكر على الذعر الوقائي الذي يميز الحوثية وبنيتها السلالية المعادية. السلالة لا تخشى القوة المباشرة فقط، فوجود أي إشارة للحياة المستقلة عنها يصيبها بالذعر، وأي بادرة رمزية قد تمنح حزب المؤتمر حضورًا أو هوية خارج سيطرتها، حتى وهو شريكها. مصادرة الأموال المخصصة لذكرى تأسيس المؤتمر يوم 24 أغسطس مثال واضح على استباق أي فعل يذكّر بأن الحزب لا يزال موجودًا كشكل سياسي حي، وأن أي استقلالية رمزية، مهما كانت ضعيفة، تُعتبر تهديدًا للهيمنة الحوثية.

مقالات

هل الصوفية هي الوجه الآخر للتشيع؟

السؤال المشروع عن العلاقة بين الصوفية والتشيع في اليمن والخليج العربي ليس مجرد نقاش عقائدي، بل هو نافذة لفهم تداخل الدين بالسياسة والاجتماع في بيئة مضطربة ومعقدة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.