مقالات
اليمن ونزعة الاستقلال (2)
"نعم يا أمين: يغار أهل اليمن على بلادهم كما يغارون على حريمهم. لا حق في البلاد لغير أهلها. ونأبى الشركة فيها كما نأباها في الحريم. فنحارب ليسلم الشرف، ونحارب ليسلم الوطن". من رد أحد اليمنيين على أمين الريحاني أثناء زيارته لليمن أوائل القرن الماضي.
يخرج قارئ التاريخ لهذه الأرض الطيبة بقناعة راسخة بأن الاستقلال ظل السمة المميّزة لشخصية إنسانها في كل أدوار التاريخ، وبسبب ذلك نزلت بها الكثير من المحن العاصفة، التي كانت تؤدي إلى الدمار والخراب، لكن اعتناق اهلها رفض الهيمنة، والخضوع للأجنبي، يشعرها بالرضا عند تقديمها التضحيات، في سبيل تحقيق الاستقلال.
قاد صراع القوى المحلية على السلطة في أوقات متفرّقة من تاريخ اليمن السياسي إلى تعريض استقلال اليمن للأخطار، وحضور القوى الأجنبية إلى الساحة المحلية، إما كحليف لأحد الأطراف، أو مستغل للأحداث، وفي كلا الأمرين كان حضورها يهدف إلى السيطرة على البلد.
فقد كان الصراع على السلطة، والبحث عن تحالفات لتغيير موازين القوة من أجل الوصول إلى كرسي الحكم، أحد الأسباب التي عرّضت استقلال اليمن لأطماع الخارج، ليس في فترة محددة، بل تكرر ذلك خلال مراحل تاريخية مختلفة. فمع بداية العصر الحديث، استنجد السلطان عامر الطاهري بالمماليك في مصر لمواجهة أساطيل البرتغال، التي كانت تهدد سواحل اليمن، وأساطيل التجارة العربية والإسلامية.
ولأن اليمن لم تكن تملك أسطولا بحريا مجهزا بالمدافع يستطيع ردع البرتغاليين، بينما كانت مصر تمتلك أسطولا قادرا لصد هجماتهم، وصل الأسطول المصري إلى السواحل اليمنية، غير أن سلطان اليمن الطاهري أحجم عن التعاون مع قوات المماليك، خشية أن تسيطر على البلاد، وقد جاء موقفه ذلك نتيجة مشورة من أحد معاونيه، التي أثارت مخاوفه.
ولكن قوات المماليك بسبب نقص المؤن، التي يحتاجها الأسطول نزلت إلى السواحل اليمنية، وبدأت في ضرب المدن الساحلية بالمدافع. وخلال تلك الفترة، كانت الدولة الطاهرية تواجه عددا من التمردات الداخلية، وكان منها تمرد القبائل في تهامة، والإمام شرف الدين في مناطق اليمن الأعلى.
وبمجرد نزول قوات المماليك بادرت بعض قبائل تهامة المتمردة بالتحالف معها ضد قوات الدولة الطاهرية، ثم بعد ذلك أرسل إليهم الإمام شرف الدين رسالة مع أحد معاونيه يؤكد فيها استعداده لدفع تكاليف القوات التابعة لسلطان المماليك المصرية، في حربها ضد السلطان عامر، عدوه وعدوهم. وكان من نتائج ذلك تعريض الاستقلال في اليمن لمخاطر المماليك من جهة، والغزو البرتغالي من جهة أخرى.
وإذا كان السلطان عامر، في بداية أمره، قد طلب معونة المماليك لمواجهة البرتغال، وأخطأ حينها في حساباته، فإن الإمام شرف الدين تعاون معهم ضد خصمه المحلي، وكانت نتيجة ذلك التحالف مقتل السلطان الطاهري، وقد شكّل ذلك التحالف ضربة قاصمة لاستقلال البلد، غير أن ردة فعل اليمنيين على مقتل السلطان عامر من قِبل المماليك في صنعاء، بتعاون أنصار الإمامة، أثار جميع القوى اليمنية، وهزّ قاعدة التحالف بين الإمام وجنود المماليك، الأمر الذي دعا شرف الدين إلى إعلان الثورة ضدهم، ورفع راية الاستقلال، وذلك بعد أن سارع المماليك لتجهيز قواتهم لحصار مدينة "ثلا" التي يتحصن فيها الإمام.
كان مطلع القرن السادس عشر من أخطر الفترات التاريخية، التي هددت استقلال اليمن، حيث كانت القوى الغربية ممثلة بالأسطول البرتغالي، تواصل هجماتها على سواحل اليمن مهددة بذلك اليمن والتجارة العربية والإسلامية، في المحيط الهندي، والبحر الأحمر، وقلب العالم الإسلامي ومهوى أفئدته مكة المكرمة، والمدينة المنورة.
سقطت دولة المماليك في مصر بيد القوات العثمانية، وكانت الأخيرة قوة إمبراطورية صاعدة، تمثل قوة الإسلام، ورفع رايته، والقيام بمهمة الدفاع عن مقدساته، وصيانة أقطاره، من هجمات الغزو الأوروبي، وأساطيله الحربية التي كانت تهدد بحار العالم الإسلامي وأراضيه، وتسعى لاحتكار التجارة، والسيطرة على موانئه وسواحله، خصوصا بعد الاكتشافات الجغرافية الجديدة، وكان أهمها طريق رأس "الرجاء الصالح".
خلال تلك الفترة المضطربة، والأوضاع الحرجة، قام علي بن سليمان البدوي صاحب خنفر بالاستيلاء على مدينة عدن عام 953هـ، وطرد العثمانيين منها، لكنه لم يكتفِ بذلك، فمن أجل أن يحافظ على ما تحقق له من سلطة على ميناء عدن، ويعزز من قواته للتصدّي للعثمانيين خشية عودتهم، فإنه "قام بالاتصال بالبرتغاليين ووعدهم بالمساعدة والسماح لهم باستعمال الموانئ العدنية مقابل مساعدتهم له ضد الدولة العثمانية. وقد أرسل البرتغاليون بالفعل بعض قطعهم الحربية إلى عدن، غير أن السفن العثمانية القادمة من مصر ومن اليمن كانت قد سبقتهم، وتمكّنت من قتل علي بن سليمان البدوي، وإلحاق الهزيمة بالسفن البرتغالية التي وصلت لنصرته عام 955هـ" [طارق نافع الحمداني "عدن بين مطامع البرتغاليين ومطامح العثمانيين خلال النصف الأول من القرن السادس عشر" صــ 174، مجلة "دراسات الخليج والجزيرة العربية"، عدد 42].
وبعد عشرين عاما مما قام به علي بن سليمان البدوي، فإن قاسم بن شويع حاكم عدن، من قِبل الإمام شرف الدين عام 976هـ، كرر الأمر نفسه، واستغل صراع العثمانيين مع البرتغال، وقام بالتواصل مع الأخيرين، لصد قوات العثمانيين، "فاستدعى عشرين منهم إلى قلعة عدن ليروا قوة التحصينات في مدينة عدن، واتفق معهم على أن يواجهوا العثمانيين من ناحية البحر، بينما يقوم هو بمنازلتهم براً، ووافق البرتغاليون على ذلك، وتعهدوا بإرسال قوة بحرية لهذا الغرض. وبالفعل أرسل البرتغاليون سفنهم إلى عدن، غير أن وصول السفن العثمانية كان أسرع منهم، وقد مكّن هذا الأمر العثمانيين من السيطرة على الموقف بالقضاء على قاسم شويع من جهة، ومطاردة سفن الأسطول البرتغالي من جهة أخرى" [طارق نافع الحمداني "مصدر سابق"].
إن انتهازية القوى السياسية، في سبيل الوصول إلى كرسي السلطة، جعلتها على استعداد لمد يد العون للغزاة في كثير من الأوقات، والتفريط باستقلال البلد. كانت القوى الطامعة في الحكم والسلطة بعيدة -في أوقات عديدة- عن الشعور بمسؤوليتها تجاه صيانة استقلال البلد، ولم تكن تتحرّك إلا استجابة وخشية وخوفا من ردة فعل المجتمع ضدها، فكانت ترفع راية الاستقلال، بينما كان حظ القوى المهادنة للأجنبي -على الساحة الوطنية- هو الزوال والاندثار.