مقالات
اليمنيون والقبول بالتعدد (5)
نهضت مدرسة الاجتهاد في اليمن بالعمل على كسر احتكار الحقيقة، من قِبل فئة أو جماعة أو مذهب، بهدف منع وحرمان الطامعين في الحكم من استغلال الدين والمذهب، للتعبئة في خوض الصراعات على قاعدة مذهبية.
مع إطلالة العصر الحديث، خطت مدرسة الاجتهاد خطوات واسعة، نحو تعزيز قِيم التسامح، والقبول بالآخر، وشكّلت تيارا رافضا للمذهبية السياسية، التي حاول المتوكل على الله إسماعيل (ت 1087 هـ) أن يؤسسها، باعتماد المذهب الزيدي كمرجعية وحيدة في البلد، وفرضه على المجتمع، وإلزام أتباع المذاهب المختلفة بقواعده، وقد ابتدأ هذا التيار بالعلامة والمجتهد المطلق الحسن بن أحمد الجلال (ت 1084هـ/ 1673م)، والعلامة المؤرخ يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم (ت 1099 هـ)، والعلامة المجتهد المطلق صالح بن مهدي المقبلي (ت 1108هـ / 1728م)، والمجتهد المطلق محمد بن إسماعيل الأمير (ت 1182هـ)، والمجتهد المطلق شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني (ت 1250هـ).
كما أسست الطروحات، التي قدّمتها مدرسة الاجتهاد، لرفض المرجعية الدّينية لأي شخص كان، سواء كان حاكما سياسيا أو عالما دينيا، أو فرض مرجعية مذهبية، تفرض أحكام مذهبها على بقية أبناء المجتمع من المذاهب الأخرى.
ويظهر ذلك من خلال حرص الإمام الشوكاني على دعوة الأفراد، وحثهم على الاجتهاد، بهدف منع أي سلطة من فرض أيديولوجيتها الدينية والمذهبية، التي تخدم مصالح الطبقة السياسية، إضافة إلى حرمان علماء السلطان، والفِرق الدينية، وفقهاء المذاهب، من استغلال الدين، وتسخيره لصالح القوى المسيطرة.
تؤكد مؤلفات الشوكاني وأفكاره المبثوثة فيها على سعيه الحثيث والمتواصل للعمل على تقريب وجهات النظر، وإدانة التمذهب، بهدف صيانة وحدة الأمة، والحفاظ عليها من التعصب الذي يقود إلى الفتن والاقتتال، وإغلاق العقل، والقبول بالتعدد، وبالآخر المختلف.
وقد شكّلت الدعوة إلى الاجتهاد - الذي ظل يلح عليها الشوكاني، ومن قبله أعلام مدرسة الاجتهاد مثل ابن الأمير، والحسن بن عبدالقادر وغيرهم، في كثير من مؤلفاتهم ورسائلهم، بإمكانية كل إنسان أن يصل بدون وصاية من أحد إلى الحقيقة،- عامل صدٍ ورفض لأي تعبئة للاقتتال، والصراع على أساس مذهبي، أو ديني.
كما أن تلك الدعوات، بل والاجتهادات عبر الكتب والمؤلفات المكتوبة، والرسائل المشهورة، قد ساهمت في ترسيخ التعدد، وتحري الإنصاف، بين أتباع المذاهب داخل اليمن.
خلال منتصف القرن الثامن عشر، زارت اليمن بعثة دانماركية، خلال حكم المهدي عباس (1189 هـ)، وقبل وصولها إلى بلادنا كانت قد مرت على عدد من أقطار البلاد العربية، والإسلامية، وقد دوّن قائد البعثة، الرحّالة نيبور، أحداث رحلته، وكان أكثر ما لفت انتباهه هو تسامح اليمنيين، الذي سجّله في أكثر من موضع، عبر العديد من المقارنات التي ضمها الكتاب الذي وثّق رحلته إلى الشرق، ومن ذلك قوله: "فالشيعة والسنة، في كل من إيران وتركيا، لا يطيق بعضهم بعضاً، ولا يصلي أتباع مذهب في مساجد المذهب الآخر. أما اليمنيون فلم يؤثر اختلاف المذاهب في علاقاتهم. وليس هذا وحسب، بل إن اليمنيين لا يكرهون أتباع الأديان الأخرى" [د. أحمد قايد الصايدي "اليمن في عيون الرحالة الأجانب"، ص94]. وحول غياب التعصّب المذهبي والديني في السلوك اليمني يقول نيبور: "فعدم تزمّتهم عكس نفسه على سلوكهم وقناعاتهم، تجاه الفِرق الدينية الإسلامية المختلفة، وتجاه الأديان الأخرى" [ المصدر نفسه].
ورغم أن اليمن قد عرفت الصراعات والحروب لأسباب مذهبية، التي كان يؤججها الساسة، إلا أنها سرعان ما كانت تزول بزوال المحركات، والعوامل السياسية التي كانت تغذيها.
ولقد حاولت المذاهب تطويع النصوص لما يخدم أطماعها في السلطة، لكنها لم تتمكن من تجييش المجتمع لمحاربة أبناء المناطق الأخرى، ذات المذهب المختلف، على أسس مذهبية، حيث إن المجتمع اليمني وتجربته التاريخية في الصراعات وقفت حائلا في وجه دعاة السلطة إلى التخندق وخوض حروب صفرية، مع خصومهم في المناطق.
وإن تمكنت بعض المذاهب كالزيدية من استثمار النص الديني لما يخدم منزلة آل البيت الاجتماعية، فإن الأمر كان متعلقا بالسياسة، والشعور بالنقص، ومن أجل التعويض عن عوامل النقص، والدخول في المنافسة على السلطة مع الزعامات الاجتماعية التي تنتمي للمكان، ولديها حضور يفوق حضورهم، بالغوا في تأويل النصوص لصالح آل البيت.
كما لم تتمكن المذاهب أن تتحول إلى أساس للانتماءات الاجتماعية، أو قاعدة للتنظيم الاجتماعي، واختزال هوية اليمنيين في المناطق على أسس مذهبية، بل ظلت هوية المكان والانتماء إليه هي الصفة الحاسمة والحاكمة لدى اليمنيين.