مقالات
بين العشيرة والمذهب
حاولت اليمن أن تُؤسس لنفسها مرجعية دِينية خاصة بها، تعبِّر من خلالها عن استقلالية شخصيّتها، ودعم رغباتها السياسية، لتجاوز قبضة الحُكم المركزي للخلافة العباسية، والتخلّص من حُكم الولاة وعسفهم، فشهدت البلاد عدداً من التمرّدات، لكن سرعان ما كان يتم إخمادها، واتهام أصحابها بالمروق عن الشريعة، فسعى اليمنيون إلى تبنِّي عددٍ من المذاهب من أجل صبْغ تحرّكاتهم بصبْغة شرعية.
استقبلت البلد، منذ القرن الثاني الهجري، عدداً من أصحاب التيارات، والأفكار، والمذاهب، التي تشرعن الخروج والتمرّد، فحضرت الأباضية، والزيدية، والإسماعيلية، وكان للمذهبين الأخيرين حضور مهم على الساحة اليمنية، وقد تبنّى جزء من البلاد المذهب الزيدي، بهدف دعم الرّغبة اليمنية ونزعتها الاستقلالية، لكنّه -كما تثبت أحداث التاريخ- لم يعبّر عن الاستقلال، بقدر ما عبّر عن الانعزال السياسي لتلك المناطق عمّا حولها، فقد حوّل دُعاة الإمامة تعاليم المذهب إلى تشريع يبرر هيمنة عشيرة، وتسلّطها على بقية فِئات المجتمع، وذلك عبر تركيزهم، وتأكيدهم على حصر الحُكم، والإمامة في البطنين من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه-، وبدلاً من تحقيق الاستقلال الإداري عن الخلافة في بغداد، تضاعفت الصراعات والانقسامات الداخلية، في البلد، وساهمت تعاليم المذهب من الناحية السياسية، عبر مبدأ الخروج، وأحقية كل طامح في السلطة من البطنين، عبر إشهار السيف للوصول إلى غايته في إشعال الحروب، وتبريرها بفتاوى تُشرعن للحملات، والغزوات الداخلية.
خلقت الحروب المتواصلة بين الطامعين، والطامحين على منصب الإمامة، الكثير من العداوات، والويلات، والحزازات بين أبناء القبائل، وساهمت، إلى جوار البيئة الجغرافية الصعبة التي عزلت المناطق عن بعضها البعض، بخلق عزلة نفسية، وإقامة الفواصل بين السكان، وبسبب ذلك رأى كثيرون أن المذهب "لم يستطع -طوال ألف عام في اليمن- تحويل العقلية العشائرية والقبلية إلى عقلية إسلامية جديدة، ترتفع في تفكيرها فوق مستوى العشيرة والقبيلة، كما فعل مذهب أهل السنة في المناطق الساحلية والسهول الجنوبية" [د. عبدالعزيز المقالح، "قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة"، ص35].
كانت الزيدية تقول بحُرية الأفعال، وتقرّ بمسؤولية الإنسان عن أفعاله، وهذه الأفكار لها دورها في تغيير التاريخ، وتقدّمه. لكن -للأسف- ما جرى في اليمن طوال عهود الإمامة أن التاريخ ظل يدور في حلقة مفرغة، ويعيد تكرار أحداثه، بصورة لم تعرفها أشد المجتمعات تخلفاً، والسبب في ذلك يعود إلى العامل السياسي، الذي كان يستهدف إخضاع الإرادة الإنسانية للقبول بتفضيل فئة اجتماعية داخل الشعب، على بقية مكوِّنات المجتمع، الأمر الذي خلق تناقضاً في بنية المذهب، انعكس على صفحة التاريخ الاجتماعي، وحال دون تحقيق فعالية الإنسان في التاريخ، وجعله عاجزاً لا قيمة له ولا دور، في ظل الأفكار الجبرية التي كانت السلطة في تلك المناطق تسعى لتعزيزها لأهداف سياسية، عبر تأويل نصوص الدِّين بما يدعم دعاوى تسلّط فئة، وتميّزها على بقية الفئات، وتسيّدها.
ومن أجل تثبيت أحقية دُعاة الإمامة في السلطة، والحُكم، وترسيخ اصطفاء الله لهم، وتمييزهم عن بقية أفراد المجتمع، فقد ربط أئمة الزيدية، وفقهاؤهم الدِّين وتعاليم الشريعة بأشخاصهم، وكان من نتائج ذلك الربط، بينهم وبين الشريعة، أن رأى سكان تلك المناطق في الاحتكام إلى الشريعة بأنه امتثال، وتأكيد على ولائهم السياسي لدُعاة الإمامة، وتسليم بتميّز أبناء البطنين من الناحية الاجتماعية على من سواهم.
قام الأئمة بحُجة محاربة الطاغوت (العرف)، وإحلال الشرع، بالعديد من الحملات ضد القبائل، ومع ذلك لم تتغيّر المنظومة الاجتماعية، وكان من أسباب فشل إقامة الشرع وتنفيذه، وازاحة العُرف، أن المجتمع كان يرى في الأول أنه يمثل مصالح فئة اجتماعية، هي جماعة السادة، بينما الثاني كان يعبّر عن مصالح، وحضور القيادات القبلية، والحفاظ على أدوارها على المستوى الاجتماعي.
وإذا كان التمسك بالعرف في أحد جوانبه يعود إلى انبثاقه من صميم الواقع الاجتماعي، ومعالجته للقضايا التي تواجه المجتمع بمرونة أكبر، إضافة إلى رسوخها بسبب استمرارية العمل بها، وليس إلى غياب التديّن أو الالتزام بتعاليم الإسلام، ففي الجانب الآخر كان "التنافس والصراع مرده في الأساس الصراع على النفوذ السياسي بين السلطات الحاكمة والفئات القبلية، فالسلطات الحاكمة، التي كانت تحاول بسط نفوذها على المجتمع وبالذات القبلي بواسطة الشريعة الإسلامية، وفي المقابل كان القبائل وزعماؤهم يتحدون تلك السلطات عبر تنظيم حياتهم من خلال الأعراف القبلية، ويضاف إلى هذا التنافس السياسي عامل آخر تمثَّل في أن الأئمة ومعظم طبقة الفقهاء كانوا ينتمون عرقيا إلى فئة السادة الهاشميين" [عبدالناصر المودع، "التقاضي الرسمي والعرفي في اليمن"]. لذلك فقد كان أبناء تلك المناطق لا يرون في حضور الشرع سوى تمدد لهيمنة، وسلطة دُعاة الإمامة من "الهاشميين" ورجال الفقه المرتبطين بهم، وفي هذا ما يؤكد على أن صياغة، أو محاولة صبغ ثقافة المجتمع، بطابع يخدم حق فئة معيّنة في السلطة والحكم لن يكتب لها النجاح، بل يُساهم في حقن المجتمع بالتوتّر، وإثارة الانقسامات، وبقائها، وذلك لأن غالبية المجتمع يرى فيها مجرد جسر لتحقيق أهداف تخص مصالح فئة محددة، مهما كانت المبررات التي تسعى لتسويقها للعامة، وغرسها في مخيّلتهم.
إن الاستناد إلى قاعدة مذهبية في السلطة يدفع المجتمع إلى نبذ المذهب، وأفكاره، وتعاليمه، مهما كانت له من إيجابيات. فخلال حكم بيت حميد الدِّين المستند على قاعدة مذهبية، رفض الناس لم يتوقّف عند معارضة حكمهم، بل ساهم "على تمكين الاعتقاد بأن الزيدية – كما كان يُقال – ما هي إلا مذهب الأئمة الحاكمين بأمرهم، وأن من يؤدي فرائضه الدِّينية في إطار تعاليم ذلك المذهب فكأنه لا يعبد الله وإنما يعبد الإمام والسلطة الحاكمة". [د. عبدالعزيز المقالح، "قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة"، ص7 ].
وفي الختام، فأي سلطة أو جماعة سياسية تسعى للحكم، داخل اليمن، مستندة في ذلك على قاعدة مذهبية، لن تتمكّن من خلق إجماع حول شرعيّتها، وسوف تقابل بالرفض الاجتماعي، ليس من المناطق ذات المذهب المختلف وحسب، بل حتى داخل المناطق التي تنتمي إلى مذهبها، لأن ذلك يقف بالضدِّ من مصالحها.