مقالات

تركيا .. بانوراما الحياة وسرمدية القلق

25/04/2025, 18:07:51

باحترازات البشر أمام تقلبات الطبيعة، تتأهب تركيا لمواجهة ما يتوقع الخبراء الجيولوجيون أنه سيكون الزلزال الأسوأ من مجموعة الزلازل الأرضية الثلاثة التي هزت مدينة إسطنبول، كبرى المدن في تركيا، الأربعاء الماضي 23 إبريل/نيسان 2925، التي بلغت قوة أشدها 6.2 درجة, بمقياس ريختر، في بحر مرمرة عند الضواحي الغربية لإسطنبول.

تقع إسطنبول وجنوب غرب تركيا ووسطها في منطقة زلزالية نشطة على خط صدع شمال الأناضول، حيث تبدو هذه المنطقة عُرضة للزلازل، إذ عرفت اسطنبول في الماضي هزاتٍ أرضيةً عنيفةً ما يجعل سكانها يعيشون على حافة قلق دائمٍ من زلازل أشد قوة.

في حضرة الموت الزؤام، الذي جثى على تلكم الأرض المكلومة بين الوسط والجنوب الغربي لتركيا وشمال سوريا عقب زلزال السادس من فبراير /شباط 2023 حضرتني الذكريات بقوة .. ذكرياتي حين كنت هناك قريباً من هذا المكان، لمراتٍ عدة، خلال شتاءات أعوامٍ بل عقودٍ عديدةٍ مضت.

كانت الرياح في الغالب عاتيةً والأمطار هتَّانةً حيناً وغزيرةً في أحيانٍ أخرى، وكل تلك البقاع التي مررت بها بدت كأنها تصارع من أجل الوجود، تحت سماواتها الرمادية أوالداكنة، وتقاتل موجةً تلو أخرى من انهيال ثلوجها الاستثنائية في تواليها وكثافتها واتساع مداها.

كان ذلك فرصةً أخرى لإعادة التأمل في فصولٍ من التطور الطبيعي ومعتركات التجربة الإنسانية، طارفها وتليدها، هناك بين الماء واليابسة ، السهل والجبل ، الربوع الريفية الخلابة وموسوعات العمران الباذخة الجمال، البادية للعيان في شموخ القلاع والحصون والأبنية الشاهقة العملاقة.

وعندما حدث زلزالها الكبير، ضارباً بعنفٍ جنوبها الشرقي مع شمال سوريا المجاور، تذكرت حديث ذلك الرجل العملاق الذي استقبلني ذات يوم في مكتبه المطل على بحر مرمرة قريباً من مضيق البوسفور. 

أشار الرجل إلى خارطة فسيفسائيةٍ هائلة للبلاد على الجدار، بدت لي معها تركيا كأنها (قارة) قائمة في مركز العالم، كوكبٌ بحد ذاته، ولكأن محدثي أراد أن يقول : أنظر كيف أن عناصر قوة تركيا وتفوقها عبر التاريخ هي نفسها نقاط ضعفها في تلك الجغرافيا المترامية بين القوقاز الآسيوي ووسط ومشرق أوروبا، وفي القلب من الشرق الأوسط على تخوم المشرق العربي.

قال إنه يرى تركيا محاطةً بالأعداء من كل جانب ، ليس الجيران المتربصون من الخارج فحسب ، ولا القوميون المتعصبون لأعراقهم المختلفة في الداخل وكفى ، بل أيضاً في هذا المضيق وشقيقه الدردنيل وفي البحيرات والسدود العملاقة والبحار .. بحارها الكبرى، الأسود في شمالها ومرمرة بين جانبيها الآسيوي والأوروبي ، وإيجة في غربها ، والمتوسط في جنوبها.

أضاف محدثي مستدركاً "لكنها تركيا.. البلاد التي لم تحن يوماً للعواصف رأساً".

توالت السنوات طوالاً على هذا الحديث، وجاءت المحنة السورية، فجأةً، لتضيف إلى ابتلاءات تركيا معضلة قديمة جديدة.

ثمة تماسٌ في العقد ونصف العقد الماضيين، حدث حد التَّماهي، وتداخلٌ معقدٌ منذ الأزل بين تركيا وسوريا، طبيعيٌ واجتماعي، العلويون مثلاً يُعدّون في تركيا بالملايين أكثر من طائفتهم الصغيرة التي حكمت سوريا لأكثر من نصف قرنٍ من العداء مع تركيا، وللأكراد هناك تشعباتهم الممتدة فوق موسوعةٍ من الوهاد والشعاب والجبال على طول حدود تركيا مع سوريا والعراق وإيران، وذلك بما لا يمكن لتركيا احتواؤه أمنياً أو جيوسياسياً.

كاد التجوال حينذاك بين مدن تركيا يجعلني لا أدري إن كنت في سوريا تركية أو تركيا سورية ، فحيثما يممت وجهي في تلك البلاد شعرت كأن في كل منعطف تركي ثمة رجل أو امرأة من سوريا ، وتخيلت أنه ربما ظل تحت كل حجر هناك في شمال سوريا ثمة نبض من تركيا.

تركيا لم تكن تاريخياً في تركيا وحدها.. تاريخ تركيا نفسه المثقل بالعداوات والذكريات الأليمة لفترات حكم السلطنة العثمانية لبلدان شتى في العمق الأوروبي والواسع في شبه جزيرة العرب وشمال إفريقيا يشكل هو الأخر مصدر تهديد محتمل لمستقبل تركيا وعلاقاتها بتلك الدول.

ربما يكون ذلك هو السبب وراء التوجس الشديد عند أغلب الأتراك تجاه كل محيطهم، وعائقاً أمام قدرتهم على إعادة صياغة علاقاتهم مع جيرانهم على أسس جديدة.

يبرز ذلك التوجس واضحاً في حدة الإحساس المفرط لدى الأتراك بكرامتهم كأمة، وبنزعتهم القومية والنبرة العالية لخطابها، فحتى حين تسألهم لماذا لا يتعلمون العربية وهي لغة القرءان الذي يدينون برسالته فإن جوابهم يكون بسؤال مقابل، لماذا لا تتعلم التركية أنت؟

أما عن اللغات الأخرى فلا يهدر التركي وقته في تعلمها مالم تكن في ذلك مصلحة أو ضرورة لعمله، وحتى حين يعرف بعضهم لغةً أخرى فإنه لا يتباهى بذلك ولا يتحدث بها معك مالم يكن بحاجة إلى هذا.

صحيح أن الأتراك هم غالبية سكان هذه البلاد، لكنهم ليسوا وحدهم إذ تدهشنا تركيا بتنوعها العرقي والثقافي الواسع والمثير.

لا مجال إذاً إلى فهم تركيا دون الوعي بثنائية التأثير والتأثر المتبادلين بين الأرض والزمن، أي بين الجغرافيا التي رسمت تاريخها ، والتاريخ الذي ما كان له أن يكون بكل تلك القوة وذلك الجبروت لولا أن الجغرافيا الصعبة التي تجعل من تركيا واحدة من أكثر البلدان التي شهدت زلازل مدمرة على مر التاريخ، حيث قتل عام 1999 أكثر من 17 ألف شخص جراء زلزال عنيف قرب مدينة (إزمير) شرقي اسطنبول، إلى جانب الطبيعة المتقلبة والمضطربة كانتا الملهم الرئيس والمحفز الأول للإنسان على منازلة التحديات وإبداع أساطيره على هذه الأرض.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.